السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
(رواق البغدادية) لعبة المصائر المتقاطعة

(رواق البغدادية) لعبة المصائر المتقاطعة






تضع رواية «رواق البغدادية» للكاتب الروائى أسامة السعيد قدمًا فى التاريخ، وأخرى فى الواقع، فالرواية الصادرة فى طبعتها الثانية فى القاهرة مؤخرًا عن دار (مقام)، يتجادل داخلها زمنان، أحدهما ماض، والآخر راهن.
ثمة زمنين يحملان جغرافيا متسعة من السرد، تتقاطع فيها القاهرة المملوكية بإهابها القديم، والراهن المصرى قبل ثورة يناير 2011، ومن ثم تصبح نقطة الانطلاق المكانى هى القاهرة القديمة ذاتها، و»رواق البغدادية» تحديدًا، المكان الذى اختاره الكاتب عنوانًا لروايته، وفضاء يتجادل فيه الزمان والمكان بوصفهما مؤشرين على زمن ممتد من لحظة القص الرئيسية والتى حددتها الرواية بالعام 2010، ثم الاسترجاع للماضى البعيد عبر تقنية الفلاش باك Flash Back  حيث العام 1309 وزمن الحكم المملوكي.
 يستعير الكاتب جانبًا من الحقبة المملوكية فى القاهرة، ويؤسس عنوان روايته على مروية تاريخية يعتمد فيها على عبارة وردت فى الجزء الثانى من الخطط المقريزية (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) لأحمد بن على تقى الدين المقريزي، عن رواق أو رباط البغدادية، والذى «كانت تودع فيه النساء اللاتى طلقن أو هجرن، حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهن». يبدو رواق البغدادية إذن  إحدى وسائل التهميش الاجتماعي، حيث يصبح النبذ والإقصاء آليتين للتعاطى مع الأرامل والمطلقات فى العصر المملوكي.
ثمة سارد بطل متورط فى الحكاية، يروى لنا ما يدور فى الزمن الراهن، يقدمه الكاتب بوصفه صحافيا يعمل بمؤسسة حكومية (أخبار اليوم)ـ، ويبدو الصحافى «حسام يسري» علامة على الاغتراب عن الذات، فهو الصحافى الممزق بين واقعه، وما ينبغى أن يكونه، وتصبح علاقته بالدكتورة ريم عبدالمنعم نقطة التحول فى حياته وفى الرواية أيضا، فيقترب منها بشغف طفولى وشفقة لما أصابها من ظلم وتنكيل، تتحول فيما بعد إلى حال من التماهى والحب.
 يجعل الكاتب من بطلته فى زمن القص الراهن (ريم عبدالمنعم) الباحثة الشابة والنابهة فى الآثار الإسلامية رابطًا عضويًا بين الماضى والحاضر، حيث تعثر على بعض الأوراق المخبأة فى أحد البيوت المملوكية القديمة فى وسط القاهرة، وحينما تحققها، تكتشف ونحن معها جانبًا من حكاية بطلة الرواية فى مسارها السردى الماضوى (فرح خوند)، التى تحيل ومعها (ريم عبدالمنعم) إلى تاريخ من القمع الذكورى للأنثى قديما وحديثا، فى مجتمعات لم تزل علاقتها بالمرأة مبتورة، ومشوهة.
تجدل رواق البغدادية إذن بين مسارين سرديين مركزين، أولهما يتصل بحكاية راهنة بطلها الصحافى الشاب حسام يسرى الذى يذهب لمتابعة وقائع افتتاح شارع المعز التاريخى فى قلب القاهرة، وعلاقته بالثورة وتحولاتها، وتواصله الفكرى والنفسى مع الباحثة المقموعة ريم عبدالمنعم، التى تعلن فى خطابها أمام حشد هائل من ممثلى السلطة إلى تماثل الحالين، القديم والراهن، فيما يتصل بالعنف ضد المرأة وهيمنة المتشددين، وتردى الواقع، أما المسار السردى الثانى فيتصل بحكاية فرح خوند القادمة من كتب التراث المملوكى وحيواته القامعة، والتى تحتل حيزًا كميًا من متن الرواية يوازى نصفها تقريبًا.
تساق  فرح خوند إلى مصيرها المحتوم ترافقها جاريتها (ورد) التى ستلقى مصيرا مأساويا أيضا فى رواية تحمل مآلات مأساوية لشخوصها ومصائر عبثية لنسائها تحديدا، وبما يحيلك إلى ميراث القمع الذكورى للمرأة العربية من جهة، وإلى جملة القيود الاجتماعية المتكئة على تفسيرات فقهية متشددة، تتعاطى مع المرأة بوصفها متاعا، ومحلا للشهوة فحسب، هنا ستكون فرح خوند مفعولا به باستمرار، فلا هى تعرف لماذا وقعت فى الأسر من البداية، ولماذا تزوجت من أميرها المملوكي، ولماذا طلب منها السلطان بإيعاز من الأمير بيبرس أن تغنى فى حفل زفاف ابنة الأمير بكتمر الساقى المقرب منه شخصيا، فكانت فرح تغنى وصوتها ينتحب، وترى زوجها الأمير علم الدين سنجر الجاولى مغلوبًا على أمره فى حضرة السلطان، وحضرة أستاذه الأمير بيبرس أيضًا، وحين تشتد آلام الحمل المنتظر، وتعود غائبة عن الوعى لبيتها، ويدخل زوجها لتخبره القابلة بأن زوجته ماتت، يستل سيفه بفروسية ليذهب مقررا الانتقام من أميره بيبرس، لكن لعبة المصائر المتقاطعة، والمآلات المأساوية تفضى به قتيلا أو مطاردا دون أن يقطع النص بذلك، كما تفضى بزوجته المسكينة فرح خوند فى رواق البغدادية، وحيدة بلا نصير سوى وصيفتها وصديقتها ورد التى فعلت الأفاعيل كى تبقى إلى جوارها فى ضعفها ومرضها الشديد.
تحمل فرح خوند فى جوهرها نزوعا تراجيديا فى رؤية العالم، وتمثل حادثة سوقها إلى رواق البغدادية نقطة الانطلاق لتأزم مسار السرد عن الزمن الماضي، والمتلاحم مع مسار الحكى عن الزمن الراهن، والمتقاطع معه عبر قراءة التاريخ وتفكيك أحداثه لفهم اللحظة الحاضرة.
وتتسم بعض المقاطع المعبرة عن المسار السردى الراهن بالجاهزية والتتابع الخطى المنتظم للأحداث، وبما يعرقل مساحات التخييل فى هذا المسار الذى بدت مقاطع منه صدى مباشرًا للواقع، وانعكاسًا آليا له.
وبعد.. تبدو رواية «رواق البغدادية» لأسامة السعيد معبرة عن كاتب يملك أدواته الفنية والتقنية، يحوى نصه بعدًا ملحميًا ما، متكئًا على تلك المراوحة الفنية بين الماضى والحاضر، ومستعيدًا أزمنة من التحالف بين الفساد والرجعية، واستعباد المرأة تحت مظلات اجتماعية ودينية واهية.