الترانيم والأناشيد الروحية.. وكورال «سانت جوزيف»
إذا كان العلماء فى سالف الزمان؛ قد رددوا مقولة: «لا يُفتَى ومالكٌ فى المدينة»!، بمعنى أهمية وضرورة اللجوء إلى رأى أهل العلم والمعرفة، وكان هذا بعد حيرتهم فى البت فى حل قضية فقهية معينة ـ ليس هذا مكان سردها ـ فإننى فى بداية حديثى عن الألحان والتراتيل والترانيم الكنسيَّة؛ أقول : لعل الدافع القوى لهذا الحديث؛ هو حضورى مؤخرًا احتفالية موسيقية رائعة بالمركز الكاثوليكى للسينما بدعوة من الأب بطرس دانيال رئيس المركز الكاثوليكى للسينما، وأحد الرهبان الفرنسيسكان فى مصر المحروسة؛ حارسة وحاضنة الأنبياء والرسُل ـ على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم ـ مذ نشأت على أرض الله الواسعة. فلنستمع لواحدٍ من أهل العلم فى هذا الصدد؛ قبل الدخول فى خضم هذا البحر الواسع والزاخر بكمٍ هائل من الجمال والمتعة والشفافية الروحية التى ليس لها ضفاف؛ فلا يُفتَى والأب بطرس دانيال راعى الفن بالمركز الكاثوليكى للسينما؛ والمشرف على الاحتفالية السنوية موجود بالمركز.. فيقول: «... إن الأناشيد الروحية والترانيم والألحان لها دور منذ بداية المسيحية، بل ومن قبل المسيحية، فمنذ عصر النبى داود بُنيت المزاميرعلى الألحان، وكانوا يستخدمون الآلات الوترية التى تشبه «الهارب»، بالإضافة إلى الدفوف والرق، وبعد ذلك بدأت الكنيسة تستخدم هذه الآلات، وتضيف إليها آلات أخرى...» و«... نوع الآلات يرجع إلى طائفة الكنيسة وطقوسها، ففى الشرق هناك الطقس الشرقى الذى يعتمد على الدف والناقوس، أما الكنيسة القبطية فلا تستخدم الأورج والبيانو داخلها، وفى الطقس اللاتينى الذى تتبعه الكنيسة الكاثوليكية تستخدم آلات موسيقية مختلفة، مثل الأورج والأورغن والجيتار والكمان، والطقس اللاتينى يتسم بتنوع الأصوات حسب قوة الكورال وعدده وكفاءته...»، و«... «من يرنِّم يصلِّى مرَّتين»! سواء فى المسيحية أو الإسلام أو أى دين، فمن يقرأ قراءة عادية يختلف عمَّن يقرأ بالتلحين والتجويد، وتفرق فى نفسية القارئ والمتلقى معًا، فكلما ازدادت علاقتى بالصلاة...»! وسأصحبكم لنلقى نظرة على هذا الفن الراقى؛ ومدى تأثيره على المشاهير فى عالم الموسيقى والغناء من فنانى مصر والعالم العربى والعالم كله، بداية مما جاء فى سفر التكوين أن «يوبال» وهو من سلالة قايين ابن آدم الذى عاش قبل الطوفان أى نحو أكثر من أربعة آلاف سنة ق.م. أنه أول من عزف على العود والمزمار؛ مرورًا بـ«زرياب العباسى» نديم الخليفة هارون الرشيد؛ وصولًا إلى موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب والأخوين رحبانى و»فيروزتهم» المغرِّدة على إيقاعات هذه الترانيم والتراتيل الملائكية المحلقة فى سموات الأرواح والأفئدة. ويقولون: إن من رأى خيرٌ ممن سمع ؟ ما بالكم بمن رأى وسمع فى آن واحد؟ فلقد أسعدنى زمانى بالاستماع إلى «كورال سان جوزيف» بقاعة مسرح المركز الكاثوليكى للسينما بالقاهرة؛ ثم بكنيسة «سانت كاترين» العريقة وأحد أهم الكنائس الكاثوليكية بمدينة الإسكندرية؛ وحظيت بأمسية روحية رائعة مع الأصوات الملائكية التى ضمت أعدادًا كبيرة من المرنِّمين الكبار والأطفال؛ حيث استمتعت بأكثر من عشرين ترنيمة وأنشودة للميلاد والسلام بلغاتٍ عدّة، تحت قيادة الأب بطرس دانيال ومؤسسة هذا الكورال «المايسترو الآنسة ماجدولين ميشيل» ؛بمشاركة متميزة على آلة «الأوبوا» للمايسترو محمد وهيدى الأستاذ بالمعهد العالى للموسيقى الكونسيرفاتوار بأكاديمية الفنون وعازف الكورنجليه بأوركسترا القاهرة السيمفونى. ويرجع تاريخ هذا الكورال إلى عشر سنوات مضت؛ ومنذ بدأ أولى حفلاته بالخارج فى سويسرا عام 2007، كندا 2008، وفى إيطاليا منذ عامين، بترانيم تدور حول المحبة والسلام والميلاد السعيد، وأنه تم اختيار هذه الترانيم من كلاسيكيات الكنيسة. ومن المُدهش فى هذه الأمسيات الروحيَّة الخلاَّقة؛ أن معظم الترانيم يتم إنشادها بعدة لغات: الإيطالية والفرنسية والانجليزية واللاتينية والعربية والإسبانية، وبرغم عدم فهم بعض الكلمات؛ ولكن يسود الجميع حالة رائعة من الانسجام الروحى والنفسى والعقلى مع الموسيقى والترانيم الكنسية المهيبة؛ كدلالة قاطعة على أن لغة الموسيقى هى لغة الأرواح الشفافة السامية السابحة فى ملكوت رب السموات والأرض؛ بلا تعصب أو حقد أسود يفرق بين البشر؛ لتكون راية الحب والسلام هى التى ترفرف خفاقة فوق الأعناق والقلوب، لتعرف البشرية بداية الطريق الحقيقى.. إلى الله! والذى أسعدنى فى هذه الاحتفالية، هو مشاركة ما يزيد على ثلاثة آلاف مصرى من المسلمين والمسيحيين؛ بينهم نخبة رائعة من الفنانين؛منهم على سبيل المثال ـ لا الحصرـ نيللى وإلهام شاهين وهشام سليم ونهال عنبر ولقاء الخميسى وندى بسيونى وسماح أنور وميرنا وليد ومى عمر وميرال وعبير منير والموسيقار يحيى خليل ود. ريهام نيازى وسهير عبدالقادر ومصمم الأزياء هانى البحيرى، ومن الكُتّاب: أحمد الجمّال وفاطمة ناعوت وعادل نعمان وراجى إسكندر، ومن الإعلاميين: طارق علام ودينا مراد وسارة نجيب، والجميل أن ترى بين الحضور العديد من أصحاب العمائم من رجالات الأزهر الشريف؛ كل هؤلاء النبلاء غصَّت بهم قاعة المسرح فى صفاء روحى وأجواء هى الجمال والنقاء بعينه، فالكل فى واحد بكل الحب الحقيقى الذى لم تلوثه الأهواء أوالتعصب العقائدى المقيت، وإيمانًا منهم بأن الدين لله والوطن للجميع. ولكن ما أجملكِ مصرنا الحبيبة.. حين تجتمع حبَّات عِقدك الثمين الغنى بماسات وجواهر قلوب أهلك الأوفياء؛ لتزين جيدِك بكل العشق الأبدى الذى لم .. ولن ينفرط مهما طال الزمن. أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون