
محمود عزمي
بماذا نأخذ سياسة هذه الجريدة؟
وبعد فقد كان من شأن التطور السياسى فى مصر أن قسم صحفها إلى كثرة هى ألسنة الأحزاب تنزل قبل كل شىء عند اعتباراتها تملك وحدها مشاعرها وتحكم منطقها، وإلى قلة تقف عند حد تسجيل الحوادث دون تعقيب بالرأى الخاص عليها أو بتعقيب يتفق دائمًا أو غالبًا مع اتجاهات الحكومة القائمة مهما يكن لونها السياسى ومهما كانت أساليبها فى الحكم، ثم إلى ندرة تحاول أن تشق لها طريقًا ذاتيًا تصدر فيه عن فكر مستقل أو متأثر بأقل ما يمكن التأثر به من مقتضيات الساعة.
وعندنا أن الواجب الصحفى، وهو مميز تمام التمييز عن واجب الساسة، وعن واجب رجال الحكم، وهو القاضى بالإدلاء بالرأى الناضج إنارة للرأى لأذهان الأفراد وإسداء للنصح للهيئات ومراقبة السلطات سهرًا فى ذلك كله على المصلحة العامة دون أى اعتبار آخر- عندنا أن هذا الواجب الصحفى لا يستطاع حقًا تأديته على الوجه الأكمل- أو بقدر ما تمكن الظروف صحيفة من تأدية واجبها- عن طريق الصحافة الحزبية أو صحافة الأخبار. والأولى مضطرة ألا ترى خيرًا إلا ما تمشى ووجهة نظر حزبها، وأن ترى الشر كل الشر فيما خالف هذه الوجهة مهما تكن وطنية الإيمان الذى يستند إليه ومهما يكن صدق التفكير الذى يصدر عنه.
والثانية مجبرة على أن تفر من الإعراب عن رأيها أو من الإعراب عنه فى صراحة على الأقل.
وإذن فقد بقيت الفئة الثالثة التى تحاول أن تنظر إلى الأشياء نظرة مجردة بقدر ما يستطيع الصحفى التجرد من العوامل المحيطة به، وهى عندنا من الندرة بحيث يجب تدعيمها بكل جهد يريد صاحبه بذله فى سبيل الشىء العام عن طريق الصحافة، ومن أجل هذا يا قوم أخذنا سياسة هذه الجريدة على اعتبار انضمامنا إلى الفئة المستقلة بين فئات الصحف المصرية.
***
ونحن استقلالنا بهذه الجريدة عن الهيئات والأحزاب جميعها لا تضمر لأى منها عداوة ولا تحمل لزعيم من زعمائها ضغينة، بل تفترض فيهم كلهم حسن النية فيما يأخذون به من أمور هذا البلد من تصريف، ولا نرى فى اختلافنا وإياهم بعض الأحايين فى الرأى إلا مظهرًا من مظاهر التنوع المحتوم فى وجهات نظر الوطنيين المخلصين إلى ما يحسبونه معلقًا، فى أعناقهم من تكاليف والتزامات، ولا سيما فى الساعات الرهيبة التى تجتازها البلاد، وإن كنا نميل بطبيعة الحال إلى اعتقاد أن تجردنا من اعتبار الحزبية يجعل تعرف الأمور على وجوهها الحقة الخالصة الناصعة أيسر لنا منه لهم وحكمًا على الحوادث أقل تأثرًا بأخطاء الرأى المقرر بالسابق من حكم.
على أنا لن نكون مُطلقين فيما نأخذ به سياسة هذه الجريدة من كل قيد فيكون أمرنا وأمرها فوضى وتكون الأهواء هى المتحكمة فينا وفيها. بل إنا لمقيدون أنفسنا - إلى ما نعرفه ويعرفه قراؤنا فينا خلال ماضينا الصحفى غير القصير من وضع لاعتبار مصر ومصالحها فوق أى اعتبار وكل اعتبار- بجوانب المهنة التى نؤمن بها رسالة للصحفى النابه فى بلد ناهض، وهى مهمة الائتمان على الصالح العام يؤديها عن طريق إثارة أذهان الناس كافة كى يقرب أكثر عدد منهم إلى «الرأى العام النابه»، صاحب الكلمة العليا فى تفهم الأمور العامة على الوجه الصحيح، وعن طريق لفت الأنظار- بحسن نية مطلقة- إلى ما يعتقد بإخلاص حلالاً من تصرفات السلطات العامة كلها وإلى ما يعتقده منها حرامًا، مجادلًا بالتى هى أحسن نابيًا عن «شطحات القلم وفلتات اللسان»، نازلًا عند خير ما ينبغى أن يكون لقادة الرأى من كريم خصال و للزمالة والصحافة من حقوق وتقاليد.
وعلى «الرأى العام النابه» نعتمد، وفى سبيل مصر نستأنف «اليومى» من الجهود.