أيمن عبد المجيد
استراتيجية الردع العام السريع
المدقق فى المشهد، يخلص إلى أن مصر، تنتهج ما يمكن تسميته «استراتيجية الردع العام السريع»، فى مواجهة ومجابهة التحديات والمخاطر الخارجية والداخلية، حفاظًا على المقدرات وأمن الوطن والمواطنين.
تلك الاستراتيجية واضحة المعالم، يمكن سرد نماذجها فى العديد من الأحداث على مدار السنوات الماضية، وحتى كتابة هذه السطور، من وضع الخطوط الحمراء للحيلولة دون المساس بمحددات الأمن القومي، إلى ردع المعتدين على الإرادة الشعبية، والأطفال والقيم الأخلاقية والمجتمعية.
داخليًا نبدأ بالعدالة الناجزة، التى لا شك فى أنها إحدي آليات الردع العام، وقد شهد هذا الأسبوع نموذجين الأول: مواجهة قضائية لجريمة سياسية، والثانى جريمة أخلاقية وكلتاهما بالغة الخطورة، الأولى سياسية بمحاولة تزييف إرادة الناخبين، والثانية أخلاقية بانتهاك عرض وشرف أطفال أبرياء.
ففى غضون عشرة أيام من ضبط المتهمين، وشروع النيابة العامة فى التحقيقات، وإحالتها للمحاكم المختصة صدرت أحكام تعكس العدالة الناجزة الباعثة برسائل تستهدف الفلسفة من العقوبة، وهى حماية المجتمع والردع العام للحيلولة دون تكرارها.
الإعدام لمنتهك عرض الأطفال
ففى القضية رقم 27965 لسنة 2025 قسم ثان المنتزه، صدر الحكم بإعدام المتهم فى قضية التعدى على أطفال بمدرسة دولية بمحافظة الإسكندرية، بعد إدانة التحقيقات والمحكمة لعامل بالمدرسة تعدى جنسيًا على أطفال داخل غرف منفصلة.
هذه القضية البشعة، حيث حوّل الإهمال الإدارى المدرسة من دار للعلم يفترض فيها أن يكون الأطفال آمنين، وأسرهم مطمئنين عليهم إلى مكان ينتهك فيه عرضهم، وهنا تأتى آلية الردع القضائى السريع والحاسم الذى يردع كل من يحرضه شيطانه وانعدام أخلاقه على تكرار تلك الجريمة.
فى بيانها ذكرت النيابة العامة، إجراءاتها من الاستماع إلى أقوال الأطفال وذويهم وشهود الواقعة، وما استتبع ذلك من معاينة الغرف المشار إليها، وعرض الأطفال على الطب الشرعى فثبت ما لحق بهم من إصابات تتفق مع مضمون أقوالهم فى التحقيقات وباستجواب المتهم أقر بارتكاب الأفعال المسندة إليه، فأمرت النيابة بحبسه وإحالته لمحكمة الجنايات المختصة.
ووصفت النيابة العامة الجريمة بأنها خطف مقترن بهتك عرض، وطالبت بأقصى عقوبة مقررة قانونًا، وصدر الحكم بإحالة الأوراق إلى فضيلة المفتى لإبداء الرأى فى إعدام المتهم شنقًا.
وسرعة تلك الإجراءات القانونية والقضائية، وما انتهت إليه من أقصى عقوبة، تحمل رسالة ردع لكل من تسول له نفسه الاعتداء على الأطفال، وحرمة العرض، الأطفال مستقبل هذا الوطن فى حماية الدولة والقانون.
ويكفل القانون المصرى، ضمانات تحمى حقوق المجنى عليه والمتهم، بغية تحقيق أقصى درجات العدالة، من خلال ثلاث درجات تقاضى، تمكن من الاستئناف ثم النقض، لينفذ الحكم النهائى آلياته بعد استنفاد كل الدرجات.
ومن الردع العام الذى يحمى الأطفال من ذئاب البشر، إلى حماية إرادة الناخبين فى عملية انتخابية شهدت سوابق هى الأولى، تعكس سخونة المعركة بين من يظنون أنهم قادرون على السطو على كراسى البرلمان، وبين إرادة سياسية إصلاحية، وإدارة للعملية الانتخابية تسعى لترسيخ الشفافية، ورقابة قضائية تحمى إرادة الناخبين وحقوق المرشحين.
فقد حكمت محكمة جنح طنطا حضوريًا، على المتهم فى القضية رقم 31869 لسنة 2025 جنح قسم أول طنطا، بالحبس لمدة عام مع الشغل والنفاذ، وألزمته بالمصاريف الجنائية، لإدانته بجريمة التأثير على إرادة الناخبين حيث ضبط بحوزته تسع بطاقات شخصية، ومبلغ مالى بقصد توجيه الناخبين للتصويت لصالح مرشح وتحققت المحكمة من ثبوت الأدلة وفق حيثيات الحكم.
وفى هذا الحكم ردع للوسطاء الذين يستخدمهم بعض المرشحين للتأثير على الإرادة، وهى سابقة قضائية، تضاف إلى الوقائع غير المسبوقة التى شهدتها العملية الانتخابية، من دعوة الرئيس السيسى للهيئة الوطنية المستقلة لاتخاذ ما يلزم من قرارات تحمى إرادة الناخبين، وحقوق المرشحين إلى قرارات الهيئة بإلغاء وإعادة الانتخابات فى 19 دائرة، وما صدر من أحكام المحكمة الإدارية العليا ببطلان الانتخابات فى 30 دائرة، وإعادة الانتخابات بها بين كل المرشحين، وجرى تنفيذ الحكم حيث تختتم الجولة الأولى بها فى تمام التاسعة من مساء اليوم الخميس.
ولعل فى جميع القرارات من إعلان الرئيس بكل وضوح للإرادة السياسية الإصلاحية، إلى الإدارة الحاسمة للجنة الوطنية للانتخابات، إلى الرقابة القضائية على الإجراءات والفصل السريع فى النزاعات والتى انتهت لأحكام إعادة الانتخابات فى 30 دائرة بحكم قضائى، إلى الردع العام بعدالة ناجزة للمرشحين وأنصارهم الذين يخترقون الضوابط القانونية للعملية الانتخابية.
ولقد أسفرت إعادة الانتخابات فى 19 دائرة عن تحولات جذرية فى النتائج فى أغلبها، وحسم مرشحون للجولة الأولى كانوا خارج سباق الإعادة فى نتائج الحصر العددى الأولى التى أبطلتها الهيئة الوطنية للانتخابات، وينتظر أن تصوب إعادة الانتخابات فى 30 دائرة اليوم مسار العملية الانتخابية وتخرج بنتائج أكثر دقة فى التعبير عن إرادة الناخبين.
الردع الحامى لمحددات الأمن القومى
النماذج المؤكدة لاستراتيجية الردع السريع والحاسم فى القضايا الخارجية عديدة، أهمها التعاطى المصرى السريع، فى مواجهة الأكاذيب الصهيونية وقبلها مخططاتها الشيطانيّة.
مواجهة الأكاذيب الصهيونية.. لا للتهجير
بالأمس القريب زعمت وسائل إعلام صهيونية أن مصر ستفتح معبر رفح لعبور الفلسطينيين باتجاهها فقط، فى مؤامرة جديدة لتزييف الحقائق، وهو ما ردعته مصر بتصريحات مصدر رفيع المستوى وبيان الهيئة العامة للاستعلامات المؤكد على أن مصر متمسكة بثوابتها، الرافضة للتهجير، الداعمة لإعادة تعمير القطاع، وأنه إذا تم التوافق على فتح المعبر فسيكون العبور منه فى الاتجاهين للدخول والخروج من القطاع، طبقًا لما ورد بخطة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
قطعًا تلك الألاعيب التى يمارسها الاحتلال عبر ترويج أخبار كاذبة لتزييف الواقع والمساس بصلابة الموقف المصري، وسبق أن أحبطت مصر تلك المحاولات بمواجهة حاسمة للتهجم على بعض سفاراتنا فى الخارج وترويج وسائل إعلام معادية لأكاذيب حول المعبر.
ولقد أثمرت استراتيجية الردع السريع، والردع العام فى جميع مواجهات مصر مع التهديدات الخارجية، بداية من وضع الخط الأحمر سرت الجفرة فى ليبيا فى مواجهة تدخلات خارجية على أرض الدولة الشقيقة، ولم يستطع أحد اختراق ذلك الخط.
وتواصل مصر دعمها للسلطة الشرعية فى ليبيا لاستعادة قوة مؤسسات الدولة الوطنية، فقد استقبل الرئيس عبدالفتاح السيسى الثلاثاء الماضي، المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطنى الليبي، مشددًا على دعم مصر الكامل لسيادة واستقرار ليبيا ووحدة وسلامة أراضيها، مؤكدًا ضرورة التصدى لأى تدخلات خارجية والعمل على إخراج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.
وهنا تتجلى المقاربة السياسية المصرية، لأزمات دول الجوار، وهى استعادة قوة مؤسسات الدولة الوطنية، والتصدى للتدخلات الخارجية، ودعم استعادة الأمن والاستقرار والبناء والتعمير.
وفى العدوان الأخير على غزة تجلى نموذج الردع المصرى السريع، بإعلان موقف مصر الواضح فى الساعات الأولى من العدوان، والتحذير من مخاطر انجرار المنطقة إلى اتساع رقعة الصراع، ثم وبكل وضوح تم كشف حقيقة مخطط التهجير ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، وتصدى مصر بحسم لتلك التهديدات والمخاطر، لتنتصر الإرادة المصرية المدعومة شعبيًا، وتنجح فى بناء رأى عام عربى إسلامى وموقف سياسى موحد انتهى إلى قمة شرم الشيخ للسلام ويمتد بإذن الله إلى تثبيت وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار.
العلاجات الجذرية
تمثل استراتيجية الردع السريع أداة تحصين الجبهة الداخلية، وحماية مقدرات الدولة المصرية، تنطلق من مواجهة مُباشرة، وتعزيز حصون الوعى العام، مستفيدة فى الإطار ذاته من تنامى القدرة الشاملة للدولة، دفاعية ودبلوماسية واقتصادية وعمرانية وحضارية وفى حالتى اليوم تجلت قدرة العدالة والمنظومة القضائية.
وتبقى أهمية الدراسة العميقة للتحديات وتقديم العلاجات الجذرية المساعدة فى تحقيق الإصلاح المنشود ومستهدفات الردع العام.
أولًا: مواجهة الانتهاكات بحق الأطفال
حماية الطفل المصرى مهمة الدولة والأسرة والمجتمع، فهم أمل المستقبل، وهنا الحماية لا تقتصر على مواجهة تهديدات الحالات الشاذة الخارجة عن الطبيعة البشرية النقية والقيم الاجتماعية والإنسانية، بل يجب أن تمتد لمؤثرات ومكونات التكوين الفكرى والوجدانى والمعرفى للأطفال.
1- نحتاج إلى دراسة وافية لمؤثرات اليوتيوب وغيره من وسائط التكنولوجيا على الأطفال وطبيعة المحتوى المصدر إليه من الخارج فى شكل ألعاب إلكترونية ومواد ترفيهية تحمل السم فى مضامينها.
ومن ثم إنتاج محتوى تعليمى ومعرفى ووجدانى عبر منصات مصرية تعلى من مستهدفات استراتيجية بناء الإنسان.
2- مواصلة وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى جهودها المقدرة فى تشديد الرقابة والانضباط فى المدارس. التحقق من تغطية كاملة للمحيط داخل المدرسة بالكاميرات وما يستلزم من إجراءات التدقيق فى اختيار عناصر العمل داخل المدرسة.
3- مواجهة حاسمة للمخدرات من منتجيها ومروجيها إلى تجارها ومسوقيها، والمتعاطين، وفصل أى عنصر يثبت تعاطيه ما يغيب وعيه، أو يسهم فى دفعه لسلوكيات منحرفة.
4- التوسع فى نشر ما يصدر من أحكام رادعة، والتعريف بالحيثيات والعقوبات التى أقرها القانون، لتحقيق الردع العام، مع بناء وعى داخل الأسرة بأهمية المتابعة الدقيقة ومواجهة أى انتهاكات يتعرض لها الأطفال.
5- بحث حماية الأطفال من الآثار النفسية الناجمة عن التفكك الأسرى ذاته وحالات الانفصال، فهذه أحد التهديدات التى واجهت الأطفال فى عدد كبير من الأسر.
ثانيًا: الانتخابات
تتطلب مواصلة علاج الأمراض السياسية والحزبية:
1- البيئة الحاضنة للعملية الانتخابية تتطلب مراجعة ودراسة أثر التطبيقات العملية لقانون الانتخابات وتقسيمات الدوائر، من واقع التجربة العملية ومدى قدرته على تحقيق الفلسفة التشريعية لنظام القوائم المغلقة وجغرافيا الدوائر الفردية، للوقوف على إذا ما كان مناسبًا أو به ثغرات تستوجب الإصلاح التشريعى لتحقيق مستهدفات الإصلاح الديمقراطي.
2- أطراف العملية الانتخابية وفى مقدمتها الأحزاب السياسية، فلدينا أكثر من 100 حزب حاصل على تراخيص من لجنة شئون الأحزاب، بينما المشاركة فى العملية الانتخابية بفاعلية لا يتجاوز عددها 15 حزبًا، 12 منها مشاركة فى القائمة الوطنية، حصد 6 منها مقاعد فردية فى الجولات التى حسمت.
الأحزاب مثل البشر، تولد وتنمو، تصاب بالأمراض السياسية، وتتعافى، بعضها يستمر ويقوى قواعده، وبعضها يضعف وتضمر قواه ويموت إكلينيكيًا، فلدينا أكثر من 55٪ من الأحزاب السياسية الحاصلة على تراخيص، لا تنافس بمرشحين فى الاستحقاقات النيابية، وهذا يتطلب علاج هذا المرض.
على الأحزاب التى حققت نجاحات، مراجعة تحدياتها، وإعداد كوادر تنتمى لبرامجها السياسية، وتلتحم بالجماهير لتكون أقدر على المنافسة بقوة فى الاستحقاقات المقبلة، وممارسة دورها فى تعزيز الوعى والتثقيف السياسى لأعضائها والناخبين، بينما الأحزاب المعرضة للموت لعدم ممارسة أنشطة سياسية مواجهة موقفها قبل أن يأتى علاج تشريعى.
العلاج التشريعى للكسل الحزبى يمكن أن يكون بنص يقضى بحل الحزب الذى لا يدفع بخمسة مرشحين على الأقل فى ثلاثة استحقاقات متوالية، أو يفشل فى الحصول على مقعد واحد فى ثلاثة استحقاقات انتخابية، مثل هذا النص يحفز الأحزاب على الدفع بمرشحين لإثراء الحياة السياسية أو الرحيل من المشهد.
3- الناخبون: الوعى والتثقيف السياسي، قضية بالغة الأهمية لدعم جهود الإصلاح السياسى والتحول الديمقراطى وهذا يتطلب استراتيجية يشارك فى تنفيذها الإعلام والمنظومة التعليمية والأحزاب السياسية، للتحفيز على رفع نسبة المشاركة وتفريغ الأحزاب والمؤسسات لكوادر سياسية.
حفظ الله مصر وجيشها وشعبها









