البروفيسور سليمان العطار.. وداعًا!
أكاد لا أصدق أننى أمسك بالقلم لأكتب بصيغة الماضى لأقول: ( كان ) بيننا !! وفى الحقيقة والواقع أقول : إنه مازال بيننا ـ وسيظل ـ بنتاج عقله وفكره الذى تركه لنا وللأجيال القادمة؛ هذا البروفيسور العالم الجليل الأستاذ الدكتور/سليمان العطار، أستاذ الأدب الأندلسى المتفرغ بقسم اللغة العربية فى كلية الآداب- جامعة القاهرة، وهو المستشار الثقافى الأسبق لمصر فى إسبانيا. عمل كأستاذ زائر فى جامعات إسبانيا وتشيلى والسودان والبحرين، وشغل عدة مسئوليات، منها: المدير الأسبق لمركز الدراسات العربية جامعة تشيلى، والذى صدر له عدة مؤلفات فى نشأة الموشحات الأندلسية والأدب الإسبانى بصفة عامة. فهو العلاّمة الفِطَحْل الذى حمل حقائبه ورحل عن عالمنا وغيرعنوانه فى ليلةٍ انهمرت فيها دموع السماء مدرارة؛ ولا ندرى هل تبكى السماء حزنًا عليه؛ أم هى دموع الفرح لاستقبالها إياه فى عليين عند مليكٍ مقتدر؟ ولا أدرى لماذا تخيلت ـ بمشاعر من تتلمذت على يديه ـ أن رحلة البروفيسور إلى السماء ستكون فى زفة ملائكية يتقدمها حملة الأنواط والميداليات والجوائز والنياشين والأوسمة التى حصل عليها عن إبداعاته؛ وهى حصيلة ما يزيد على نصف قرن بعدد السنين؛ ولكنها فى الحقيقة توازى حصيلة التحليق فى عالمه الخاص؛ بما يوازى مئات السنوات الضوئية المخلصة للعلم والبحث فى أغوار الحضارة الأندلسية ولغتها وترجماته المؤثرة لأدبائها من كتاب القصة القصيرة والرواية؛ ورغم قيامه بترجمة «مائة عام من العزلة» للكاتب الكولومبى «جابرييل جارثيا ماركيز» قبل حصوله على جائزة نوبل فى الآداب عام 1982؛ وبترجمة رائعة قال عنها فى حديث خاص له : «ليس مدحاً فى الذات إنما حقيقة شهد بها جميع القراء؛ فالترجمات الأخرى أطفأت العمل، فالرواية فيها لون من ألوان اللهب، وفيها أشياء لا يعرفها إلا من يفهم اللغة الإسبانية عن قرب». ولكنه وبرغم كل هذا التمكن من اللغة الإسبانية؛ فإنه يعتز أيما اعتزاز باللغة العربية التى يقول عنها إنها اللغة» الأم» بالنسبة للغة الإسبانية، لأن جذورها أصلها عربى؛ فقد اختارت البناء النحوى للعاميات العربية، بل يقول «العطار» على لسانه : «أحيانا عندما أقرأ العبارة الإسبانية أحس بأننى أقرأ اللغة العربية». ويحار القلم بين يدى .. ففى أى اتجاه يكتب عن الإبداعات المتعددة لهذا العالم الجليل؟ وهى الإبداعات التى تتقافز بين جمعه بين الدراسات للأدب المقارن وبين دراسات الأدب الشعبى والفلكور والتصوف والأدب الجاهلى، فمن بين أبرز مؤلفاته : « الخيال عند ابن عربى» ، وإيمان «العطار» الذى لا يتزعزع بأن الحُب الصوفى الروحى؛ هو ثورة وثروة الإنسان /الإنسان، وأيضًا لا يمكننا أن نغفل عن كتابه «مقدمة فى تاريخ الأدب العربى: دراسة فى بنية العقل العربى»، و» مقدمة منهجية لدراسة الأدب العربى» والموتيف فى الأدب الشعبى والفردى «نحو منهجية جديدة». ناهيك عن الاهتمام الخاص الذى يكاد يتلامس مع شخصيته وتكوينه العلمى والعقلى بالشخصية الخيالية « دون كيشوت»؛ ذاك الفارس الأسطورى الباحث دومًا عن تغييرالواقع المجتمعى إلى الأفضل سلوكًا وانضباطًا وامتثالاً لكل القيم الجمالية التى تليق بالإنسان الذى يجسد قيمة الله فى الأرض! وهى رواية قام بكتابتها الأديب الإسبانى « ميجيل دى ثيربانتس سابيدرا»؛ وكان جُل اهتمام الراحل الكريم بتلك االرواية من قناعاته بالواقعية الأدبية كجزء لا يتجزأ من الجماليات النصية فى الابتكار والإبداع الأدبى بشكلٍ عام. أعود لأقول: لم يكن «العطار» متجولاً فى البلاد كـ «دون كيخوت» الذى كان يمتطى صهوة جواده الضعيف حاملاً درعًا قديمًا ومرتديًا خوذة بالية؛ ولكن «العطار» ظل لآخر أنفاسه ممتطيًا صهوة القلم الذى لايعرف المهادنة فى سبيل إعلاء قيمة الجمال والحب الإنسانى الرفيع لطلابه ومريديه فى حلبة العلم والعلوم الإنسانية الراقية؛ وشحذ الهمم نحو التحديث الثقافى العلمى والسلوكى، ورحل عن دنيانا.. ومازلت لا أصدق أن أقول عنه : كان بيننا منذ لحظات قليلة من عمر الزمن المقتول فوق عقارب الساعة. السلام لروحك.. يامن كنت جميلا .. وستظل جميلاً بقدر ما أعطيت للبشرية من علم ومحبة تعادل محبة الرسُل لرسالاتهم فقد كنت دوما نعم الأستاذ والصديق والأب تعيش بين تلامذتك ولهم وبهم، كنت خير معين وداعم مغداق تغمر من حولك بفيض من روحك العاشقة للحرية والانطلاق.. ستبقى بما غرسته فينا من دفق روحك العطرة التى ستظل ترفرف علينا من عليين. أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون