الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
فرانز كافكا أيقونة الرواية الحديثة

فرانز كافكا أيقونة الرواية الحديثة

 «لكم هو قاسيا ذلك الوثن الذى يدعى الأب؟ لا أعرف لماذ حتى هذه اللحظة برجفة فى أعضائى عندما يسعل بشدة أو يرتفع صوته عاليا مزمجرا سواء كان غضبا أو غير ذلك .. ربما يعود بى الصوت بشكل لا أرادى لفترة كنت ابن الأربع سنوات وكنت أخشى أن يسحب عصاته ويضربنى بها عدة مرات كما سمعت أنه فعل مع بعض السعاة عنده فى المتجر .. آه أيها الرب لماذا قدرت علينا هذا الوثن الذى يدعى الأب .. لكم كان يسعدنى أن أكون لقيطا وتسقط عنى هذه الرعدات التى تسبب لى توترا فى أمعائى خوفا من رجل أعرف أنه أبى».



هذه الشذرة هى ضمن أربعة قصاصات اكتشفت منذ شهرين فى برلين فى إحدى المكتبات التى تبيع الكتب الأثرية وهى بالطبع كما اكتشف الخبراء تعود لأسطورة القصة والرواية المتوسطة فى القرن العشرين فرانز كافكا والذى يحلو أن يطلق عليه البعض رائد السوداوية وكما وصفه عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين أنه رجل التشاؤم الأول بعد أبى العلاء المعرى ولربما يحلو للبعض أيضا أن يؤكد على طليعية أدب كافكا من ناحية أنه خطوة قوية فى الخيال العلمى لكن الحقيقة أن هذا يعتبر تخيلا غير حقيقى للون الأدبى ومدرسة كافكا لسببين، أولهما أن كافكا لم يقصد بتطويرات أسلوبه المجازى فى السرد أن يتحدث عن عصر لاحق أو عن رؤيا مستقبلية ترتكز على أفكار تقنية متطورة وهذا هو لب رواية الخيال العلمى، وثانيهما أن كافكا لم يظهر فى أعماله أفكارا علمية أو تقنية تستشرف المستقبل أو تلمح له على الرغم من أنه كان يتردد باستمرار على الصالون الثقافى فى براغ الذى كان يحاضر فيه بشكل دورى ألبرت آينيشتين وماكس بلانك وغيرهما من علماء هذه المرحلة التى فهمها كافكا وقام بهضمه لأنه كان عقليا يميل إلى التفكير العلمى فى حياته العادية.

أيضا علينا أن نحلل مصطلحا يقوم النقاد بإقحامه دائما على أدب كافكا وهو مصطلح الكابوسية والذى ربما استقوه من بعض النقاد الألمان لكن لا يعنى هذا أن نتقبله قبولا أعمى وننسب كافكا لما يعرف بمدرسة الكابوسية فى الأدب على العلم أن كفاكا لم يصنف ذاته ككاتب ولا حتى نستطيع تصنيف كتاباته إلا إذا وضعنا فى حسباننا مدرسة عريضة انتشرت فى القرن العشرين بشكل واسع وربما كان كافكا أحد أقطابها وآبائها وهى نفسها مدرسة القصة الحداثية والتي يأتى على رأسها فيما بعد ناتالى ساروت الكاتبة الفرنسية ذات الأصل الروسى.

الحقيقة أن مجموعة الكتابات الشذرية التى اكتشفت مؤخرا فى برلين تعول على الكثير من أسلوب كافكا وتلقى ببعض الضوء على أمور غامضة فى حياة كافكا حيث نقرأ بين هذه الشذرات مسودة خطاب كان قد كتبه لخطيبته الأولى إليس باور ونجد الخطاب به الكثير من الأمور الملتبسة التى نستشفها عن شخصية كافكا نفسه فيقول فى جزء من الخطاب :لا أستطيع أن أقول إننى مغرم بكِ كلية لأن هذا الغرام الذى يستغرق فيه الإنسان يجعله فى بعض حالاته صنوا للحيوان ورغباته الجسدية غير المحسوبة، فلا أستطيع أن أتخيلك عارية أو حتى أتخيلك امرأه تُطلب للزواج .. دعينى افترض أن الحب الذى أحبه لكى عمليا بشكل كبير فأنا أطمح للزواج نعم لكننى أيضا أفصل شخصية فرانز المحب والصديق عن فرانز الزوج وتستطيعين أن تقولى إن كلا منهما يبغض الآخر ويجمعهما حبك فقط .

الحقيقة أن كلام كافكا غريب على كاتب وأديب بل ربما على رجل قانون يحمل دكتوراه فى القانون مثل كافكا، وتتمثل صراعات كافكا فى الشاب الحالم الذى يصارع داخله قسوة الأب وتسلطه وطقوس العقيدة اليهودية التى تمثل أحد منحنيات الفكر عند كافكا فهو من ناحية معزول لحد ما عن مجتمعه الأصلى الذى هو بالأساس يرفضه فى العقل الباطن ومن ثم يرفض أن يذهب للكنيس اليهودى مع والده إلا فى المناسبات تحت تأثر ضغط شديد من والده حتى أنه يتنصل أحيانا من شرائع اليهودية التى تحل أكل اللحوم ويتحول لإنسان نباتى.

لربما تشكل عقدة الأب المتجبر أهم عقد كافكا والتى تبدت جلية فى معظم أعماله إن لم تكن كلها ولعلنا لم نجد أهم من روايته القصيرة التحول والتى تعتبر من وجهة نظرنا أحد أهم الطفرات فى عالم السرد الروائى بل تحتوى على تكنيك سردى لم يصل إلى ذروته غير كافكا والقلائل من جيل الحداثة لكن يظل كافكا هو الرائد فى هذا التكنيك والذى نطلق عليه مجازا تتابع السرد فى اتجاه اللامعقول وهذا يثبت كثيرا ما أسلفنا وقلناه من حيث إنه ليس من كتاب الخيال العلمى أو الكابوسية فهناك فرق كبير بين الكابوسية وبين تتابع السرد فى اتجاه اللامعقول، إذن كيف نستطيع قراءة صراعات كافكا فى روايته المتوسطة المسماة التحول (المسخ) والتى اقتبس اسمها من مؤلف افيديوس الشهير ميتامورفيسوس؟ أولا علينا أن نضع القارئ الكريم فى صلب الحدث السردى ليعيش نفس الحالة ومن ثم علينا ان نسأل كيف سوف يكون شعورك وكيف سوف يكون تصرفك إذا استيقظت من نومك ووجدت نفسك قد تحولت لحشرة؟ بل ماهو مدى المجهود والعنت الذى سوف تبذله لتتأقلم مع كونك حشرة وما مدى تقبل الآخر لك حتى وان كان أقرب الأقربين؟ هكذا يلقى بنا كافكا فى خضم حدث من أحداث اللامعقول لكن أمانته فى السرد تجعلنا نقف وقفات كثيرة حتى لا نصدق هذا الأمر المؤلم .. انك قد تستيقظ فتجد نفسك لا تساوى شيئا حتى فى عيون من بذلت كل غال ورخيص من اجلهم هذه هى الفكرة الرئيسية فى الرواية، تشكل رواية «التحول» أحد أهم المحطات الفارقة فى تاريخ الرواية العالمية ونستطيع أن نضمها لمدرسة العبث التى كان لها حظا أوفر فى المسرح ومن ثم يتطابق معها ما يعرف بمصطلح تتابع السرد فى اتجاه اللامعقول.