الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«المستقبلية» ومذاهب الفن فى القرن العشرين

«المستقبلية» ومذاهب الفن فى القرن العشرين

لعلنا فى خضم ما نطرح من تساؤلات حول النظرية والفن والفرق بين المذهب الفنى الرصين والبدعة التى ما تلبس أن تنطفئ وتزول بزوال المؤثر والدافع وربما أيضا بزوال مبتدعها أو الشخصية الرئيسية وراء ظهورها، والحقيقة أنه لم تشهد حقبة من الزمان ما شهدته حقبة النصف الأول من القرن العشرين والتى كانت تظهر فيها كل شهر دون مبالغة بدعة فنية أو مدرسة ما أو جماعة وكل جماعة تعلن بيانها التأسيسى والمعروف بالمانيفستو، فهذا مانفيستو السريالية وتلك مانفيستو الدادية وهكذا ولعل أكبر تجربة عاشها الفن بمذاهبه فى هذه الحقبة هى استحالة أن يتعايش المذهب الفنى أو المدرسة الفنية فى خدمة فصيل سياسى أو طبقة حاكمة ومع أن المذاهب الفنية أحيانا تنشأ على أساس تدعيم مذهب سياسى أو فصيل سياسى معين أو ربما العكس أى أن الفصيل السياسى والحركة السياسية، ربما تستلهم بعض خصائصها ومبادئها من المدرسة الفنية أو الفلسفية وحيث تلتصق أحيانا بعض الفلسفات والمذاهب الأدبية بحركات سياسية أو أحزاب بعينها. الحقيقة أنه حتى نوضح هذه الفكرة السابقة بجلاء علينا أن نطرح مثلا يتبين القارئ من خلاله فكرة المذاهب الفنية والأدبية وعلاقتها بمناحى الفكر والحراك العقلى فى فترتها وليس أصدق وأكمل أمامنا من مذهب نشأ فى القرن العشرين، وسار فى طريق التخبط محاولا تطوير فكرته الأولية من خلال عمليات عدة باء معظمها بالفشل وهو مذهب المستقبلية الذى يعود الفضل فى ابتداعه للأديب والمنظر الإيطالى فيليبو تومازو مارينيتى وهو أديب ومنظر إيطالى نشأ بين مصر وفرنسا وإيطاليا ويعتبره الكثيرون من صفوة العقول التى حركت الحياة الثقافية والفكرية فى أوربا كلها.



فى البداية نقدم للقارئ الجو أو المناخ العام لهذه الفترة، والذى يمكن أن نصفه بالمناخ الطليعى الذى صاحب اكتشافات علمية مذهلة وتقدم صناعى غير مسبوق بل وسقوط مروع لمعظم المذاهب المثالية ، وكانت النقطة الفاصلة لنشأة مذهب المستقبلية futurism  كانت تلك الثورة التى أطلقها أينشتين وقدم للعالم وصفا جديدا للكون وحطم ما يعرف باكتمال الفيزياء بعد أن قدم للعالم بعدا رابعا غير العمق والطول والعرض حيث أضاف لهم الزمن، ومن ثم أصبح لزاما على الزمن أن يشترك فى كل ما نقدمه فى الأدب والفن وتلك كانت الفكرة الأولية لدى فيليبو مارينيتى والذى أسس مذهب المستقبلية مصارعا ردحا من الزمان ليعطى للمذهب شريعته بين المذاهب الطليعية الأخرى.

ولعل أول ما يواجهنا فى مذهب المستقبلية هو أنها ارتبطت شكلا وموضوعا بشخص واحد سواء فى نشأتها أو فى نضالها المستعر لإثبات وجاهاتها، وهذا الشخص كان مؤسسها فيلبو مارينيتى والذى كانت التحولات فى شخصيته الفكرية والفنية هى نفس تحولات المذهب بحكم أنه هو المحرك الفعلى للمذهب المستقبلية، والحقيقة أن هذا جعل الحركة تموت موتا فعليا وليس تشبيها بموت مارينيتى نفسه.

كانت الفكرة التى دفعت فيليبو تومازو مارينيتى للخروج بهذه المدرسة هو كما قلنا ذلك التطور السريع فى العلوم الفيزياء الذى تحقق على يد علماء بعينيهم مثل ألبرت اينشتين الذى حطم 40% على الأقل من الموروث العلمى للتاريخ، وخرج ليس فقط بنظرية فى الفيزياء بل كانت نظريته النسبية هى فلسفة مكتملة مثلها مثل الهيجيلية والوجودية وغيرها من الفلسفات، الحقيقة أن اينشتين أثر فى مارينيتى على مستويين أولا المستوى النقدى أى دحض ثوابت كثيرة فى تاريخ العلم والمستوى الثانى هو المستوى التكتيكى، حيث جعل من الزمن بعدا رابعا قابل للحركة والتشكيل وهذا بالتحديد ما سار فى دربة مارينيتى فأعلن هو وجماعته الحرب على كل ما سبق من مدارس ونظريات فنية وأدبية، ووصل إلى حد رفضها تماما لدرجة أنه فى بداية عنفوانه طالب بتدمير المتاحف وتحطيم ما سبق من أعمال فنية وهذا قاده للإعلاء من قيمة الوحشية والصراع التصادمى الجسدى أى الحرب، وتحت هذا الإطار بدأ بالتبشير بالفن المستقبلى الذى هو فى الحقيقة ثورة على الماضى وقال حرفيا بضرورة أن يقطع الفنان علاقته بالماضى تماما ليبدأ فى أنتاج فنا للمستقبل.

فى معرض حديثنا عن المستقبلية علينا أن نتقبل فشلها فى النفاذ لبدن الكتابة الأدبية بشكل عميق وفعال وكان هذا هو السبب فى الخيبات المتعاقبة لأعمال مارينيتى المسرحية والتى منيت بفشل ذريع واستقبال ساخر من الجمهور والنقاد على السواء، فكان الجمهور يتلف العرض بالفوضى والسخرية والتصفير كما حدث فى مسرحيتى «ولائم الملك» و»السيدة الراقية» وحتى عمله الروائى التالى وهو مافراكا المستقبلية تم منعة من قبل الرقابة لأنه يحتوى على مضامين لا أخلاقية حتى أن دور النشر أحجمت عن طبع النص ما يقرب من 80 عاما حتى تم طبعة عام 1994 ، لكن هناك جانب مشرق وحيد فى مسرح فيليبو مارينيتى، وهو أنه استخدم تقنيات جديدة فى العرض المسرحى ومن بينها الإنسان الآلى قبل أن يخترع  التشيكى كارل كابك مصطلح روبوت بأربعين عاما.

أبتعد فيليبو مارينيتى عن السياسة وهادن الفاشية أى عارضها ولكن بشكل ناعم لكنه أيضا ثار وعارض بكل صراحة اضطهاد الفاشية لليهود على نهج نازية هتلر، وبعد أن كان ملحدا عاد وأعترف بطاقة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية على تشكيل خُلق المجتمع والفن بعد ان كان قد هاجم البابا فى شبابه فى مسرحيته «طائرة البابا».