الجمعة 19 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
دموع إحسان ونظارة روزاليوسف!

دموع إحسان ونظارة روزاليوسف!

ساعات طويلة أمضتها السيدة روزاليوسف فى دار المجلة تتابع وتشرف على كل شئ يخص مجلتيها.. روزاليوسف وصباح الخير، وفى المساء - يوم 10 إبريل سنة 1958 كانت تغادر الحياة، وعن تفاصيل اللحظات الأخيرة من ذلك اليوم الطويل كتب إحسان عبدالقدوس قائلا:



فى المساء جاءت إلى المكتب وأشرفت على أعمالها وهى جالسة فى سيارتها، ولكننى لم أرها.. كنت جالسًا فى مكتبى أكتب قصة.. وبدأت القصة الكبرى عندما دق جرس التليفون فى مكتبى وأنا مازلت أكتب قصتى، يملؤنى الغرور بأنى أستطيع أن أخلق حياة على الورق وأحرك أشخاصها كما أريد وقال الصوت فى التليفون:

- والدتك تعبانة شوية.. هات الدكتور وتعال!

وأمرت عامل التليفون بأن يبحث عن طبيب وعدت أكتب سادرًا فى غرورى ثم فجأة تنبهت وألقيت بالقلم من بين أصابعى كأنه يلعننى، تنبهت إلى أن الذى خاطبنى قال لى: تعال!! إنهم عادة لا يستدعوننى عندما تمرض أمى.. إنهم لا يعرفون إنها لا تحب لى أن أراها وهى مريضة!! ولكنه قال تعال!! وارتديت سترتى وهرولت على السلم وركبت سيارتى والوساوس السوداء تملأ رأسي!

وأقنعت نفسى.. لا بد أنها أكلت شيئًا دسمًا فعاودتها نوبة المرارة.. يا سلام يا ماما لماذا لاتحترسين - لماذا لا تخضعين لأوامر الطبيب.. إنك عنيدة دائما:

ودخلت البيت وقد وضعت بين شفتى ابتسامة كبيرة وفى رأسى بضع كلمات كأنها نكات لعلها تضحك لها:

إن البيت هادئ هدوءًا غريبًا والذين يستقبلوننى لا يبتسمون لى، ووقفت فى البهو.. لا أحد يكلمنى.. وفى البيت طبيب صديق جاء عفوًا ونظرت إليه لعله يتكلم، ولكنه لم يقل شيئًا وسألته: هل رأيتها؟! قال وهو لا ينظر إلى: نعم الحالة خطيرة هذا كل ما أستطيع أن أقوله!! و..و...و...و 

وأخذت أروح وأغدو فى البهو وأحد أفراد العائلة يدير قرص التليفون ليتعجل الطبيب الأخصائى، وجاء الطبيب ودخل اليها لم يمكث سوى دقيقتين ونظرت فى وجهه متسائلا وحزنى يغلب تساؤلى ولم يتكلم الطبيب وسمعت صوتًا لا أعرفه: البقية فى حياتك!!

وصرخت وهرعت إليها.. جريت إليها إلى حياتى إنها راقدة فوق فراشها كما تعودت أن أراها، بشرتها فى لون اللبن المخلوط بعصير الورد وهى تبتسم، إنى لا أتخيل ولا أبالغ إنها تبتسم ابتسامتها الصغيرة التى أعرفها جيدًا.. لقد كذبوا على.. ماما ماما ردى على ياحبيبتى إنك تكرهين الكذب فاشخطي فيهم قولى لهم ألا يكذبوا على ابنك!!

ولكنها تبتسم ولا تتكلم.. وتنبهت إلى أنى أبكى.. إنها لم تكن تحب أن ترانى باكيًا، لقد رأتنى أبكى منذ سنوات فضربتنى وقالت لى: كن رجلا.. ومسحت دموعى..

وسقطت على ركبتى بجانب فراشها ودخلوا مرة ثانية ليحملونى عنوة بعيدًا عنها ونظرت اليهم متوسلا لحظة واحدة أرجوكم..وأمسكت باليد الكريمة الموضوعة بجانب الجسد الطاهر وقبلتها ثم رفعتها إلى جبينى كما عودتها كلما التقينا وكلما افترقنا.

وتركونى وحدى وبدأت أحس كأن الحياة كلها وقفت، وهى وأنا قد انتقلنا إلى عالم آخر ووقفنا معًا فى شرفة قصر كبير نطل على الدنيا التى كنا فيها.. لقد عشنا حياة مليئة زاخرة.. و..و

وتسلل شعاع من نور إلى عينى المكدودتين، وقمت أسير فى العالم الآخر الذى أعيش فيه مع أمى.. وخرجت إلى الشرفة وفوجئت مفاجأة كادت تخلع قلبى.. لقد رأيت رجلا يسير فى الشارع.. ومركبا تطفو على صفحة النيل.. وعربة محملة بالخضار.. وورود جميلة فى الحديقة المجاورة.. وطلبة وطالبات وبائع الجرائد يصيح: صباح الخير!

إننا لسنا فى العالم الآخر.. إن الحياة لم تتوقف.. وعدت من الشرفة لأبحث عن أمى وأبشرها بأن الحياة لم تتوقف.. إن بابها مغلق.. أغلفوه بالمفتاح حتى لا أصل إليها.. ووقفت طويلا أمام الباب ثم أقنعت نفسى.. أقنعت نفسى بأنها ماتت!!

أمى ماتت.. وعدت أطوف بحجرات البيت.. وفى الحجرة التى تعودت أن تجلس فيها لتقرأ وجدت نظارتها موضوعة لوف العددين الأخيرين من «روزاليوسف» و «صباح الخير».. وأخذت النظارة ووضعتها فى جبينى.. إنها لا تزال فى جيبى إلى الآن لعلى أرى بها ما كنت تراه.» وللحكاية بقية!