الخميس 12 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«ماريكا كاناروبولو» معجزة الغناء الشرقى

«ماريكا كاناروبولو» معجزة الغناء الشرقى

أحيانا وبمجرد أن تكتشف بالصدفة أحد المعجزات التى تناثرت على أرضنا واختفت فجأة ثم واراها النسيان .. تعرف وقتها أن الصدفة هى أعظم الطرق التى تكشف لنا الكنوز سواء مادية أو بشرية وهى التى يعتمد عليها مكتشفى الكنوز بشكل ضمنى.. والحقيقة أننى أحد هؤلاء الذين خصتهم الصدفة بالكثير من الكنوز التى توارت فى طى النسيان بالرغم من عظمتها وعبقريتها..



بدأت الحكاية منذ ثلاثة أعوام فى أحد رحلاتى لإقليم ثيسالونيكى اليونانى (سالونيك) .. كنت فى زيارة صديقى أنجيلوس بباديموس وهو شاب مثقف تتلمذ على يد الكثير من مثقفى سالونيك ومن بينهم أستاذى الكبير والشاعر العظيم الراحل كوستيس موسكوف، يمتلك أنجيلوس مطعما كبيرا فى أقصى حدود سالونيك وبينما أجلس معه كعادتى إذا بى أستمع إلى صوت يونانى عذب يغنى على أنغام شرقية بحته وصافية .. والحقيقة أن هذا الصوت وقع على وقع البلسم على الجرح المتأجج فكان كأنه يد حانية تربت على مفرق الجرح فتداويه وتريحه من آلامه .. ولما انتهت الأغنية طلبت منه أولا أن يعيد تشغيلها .. ثم سألته عن هذا الصوت الذى يخيل لك أنه أتى من الجنة أو طار هاربا من غرناطة بعد سقوطها بموشح أندلسى حزين وثرى.. أجابنى أنجيلوس أن المغنية قديمه جدا من ثلاثينيات القرن الماضى وهى من عظماء مطربى الريبتكو كما أنها من مطربات الأمانديس (ولم أكن أعرف معنى هذا النوع من الغناء على الرغم من درايتى الواسعة بكل صنوف الغناء والموسيقى اليونانية) لكن أنجيليوس حكى عنها باقتضاب وقال لى أن حياة هذه المغنية كانت غامضة، وعلى الرغم من أنها ضمن أعظم عشر أصوات فى تاريخ اليونان إلا أن المعروف عن تاريخ حياتها قليل جدا.. وقال لى ببساطه وبكثير من الأسى أيضا - ماريكا كناروبولو - يونانية عظيمة جعل منها القهر والترحال شخصية مجهولة.

بعد أربعة أيام ركبت القطار من سيثالونيكى متوجها إلى أثينا ولمدة أربعة أيام قضيتها فى سالونيك لم يفارق أذنى صوت ماريكا كاناروبولو وكأنه صوت سحرى يسكن عقلى وقلبى بل وتحول الأمر إلى هوس لم أستطع مقاومته.. وبمجرد وصولى أثينا توجهت لصديقى كوستا الذى يملك هو وأمه مطعما شعبيا أمام متحف الأجورا.. تناولت طعامى وانا أستمع لصوت ماريكا العذب والساحر.. وكان كوستاس يحدثنى بخبرته الواسعة عن الأسلوب الموسيقى لماريكا وجيلها لكنه أيضا أعترف أن تاريخ حياتها ملتبس وغير موثق والذى يعرفه عن حياتها قليل.

ولدت ماريكا كناروبولو فى بورصة التركية بالقرب من أسطنبول عام 1914 لأسرة تعمل كلها بالموسيقى التى كانت تقتصر آنذاك على الغناء فى بيوت الأثرياء العثمانيين ولذلك فإن ماريكا كانت تعرف أيضا باسم ماريكا بورساليا - أى ماريكا بنت مدينة البورصة - وبرعت ماريكا فى الغناء منذ أن كانت ابنة العشر سنوات ووصلت للنضج فى سن ال15 عاما حيث كانت تغنى ما يعرف بغناء الـ «أمانديس» وهو نوع من الغناء اليونانى الذى يغنى على المقامات الشرقية والتى أستخدمها الأتراك فى غنائهم والكلمة مشتقة من لفظ – أمان – فحينما يغنى المغنى يقول أمان حالة حال المغنيين العثمانيين والعرب فى هذه الفترة.. وبعد الحرب العالمية الأولى وصلت السادية العثمانية والقهر والتعنت أوجه وكان اليونانيون يعانون تطهيرا عرقيا على يد الأتراك مثلهم مثل الأرمن بل وربما أكثر فأتجه العثمانييون لتشريد اليونانيين بعد طردهم من أرضهم وهم سكانها الأصليين مثل طردهم من سيمرنا - أزمير حاليا - وطردهم أيضا من اسطنبول على الرغم من أن اليونانيين كانو يشكلون أكثر من ثلث سكانها وكانو سكان أصلين سكنو بيزنطة قبل احتلال قبائل الترك الرحل لها وتغيرهم أسم العاصمة - كونيستانتينوبوليس - أى القسطنطينية إلى اسطنبول .. خرجت ماريكا مع أسرتها من موطنهم إلى اليونان وعاشت بين إيلاتوس وسالونيك وأثينا حينما كان عمرها بين الـ17 والـ19 عاما وهناك حظت بشهرة واسعة وعرفت باسم – توركاليستا – اى التركية الصغيرة نظرا لأنها آتية من تركيا وتغنى أيضا على النهج التركى مجيدة لفن المقام، كما أن أسم أسرة ماريكا الحقيقى مجهول أيضا لأن لقب – كناروبولو  هو اسم شهرة ومعناه ابنة طائر الكنارى – لكن البعض يقول أنه ربما يكون اسم أسرتها الحقيقى لأنهم أسرة تعمل بالموسيقى وربما ينطبق هذا اللقب عليهم – وتؤيد صديقتنا إلينا هذا الرأى – كانت ماريكا ضمن أعظم مغنين جيلها سواء فى غناء الأمانديس أو الريبتكو وكانت بين أشهر ثلاث مغنيات فى فترة الثلاثينيات والأربعينيات فكانت هى والمغنية الشهيرة ريتا أباتزى و روزا أشكينازى، أرتبطت ماريكا موسيقيا بالملحن وعازف الكامان الشهير كوستاس تزوفينو والذى لحن لها أغانى عديدة من بينها – نيا ميراكولو – والحقيقة أن معظم أغانى ماريكا كانت تحمل أسماء مقامات غنائية شرقية لكن بصيغة يونانية ولشدة شهرتها فى هذه الفترة سجلت عشرون أغنية بين عامى 1933 و 1935، لكنها ولسبب مجهول تزوجت وهاجرت إلى أمريكا عام 1937 ولسوء الحظ أنها على عكس كل الموسيقيين اليونانيين الذين هاجرو إلى أمريكا توقفت عن حرفة الغناء تماما ولسبب مجهول أيضا عادت ماريكا كناروبولو إلى أثينا سرا، ربما فى نهاية الأربعينات وظلت مختفية عن الأضواء حتى ماتت عام 1990 عن عمر 76 عاما .