الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
تسونامى كورونا.. شكرًا!

تسونامى كورونا.. شكرًا!

يجب أن نعترف أننا لم نعطِ اهتمامًا واجبًا وكافيًا لصرخة الأديب الروائى الكبير/يحيى حقى؛ فى روايته التى تُعد بمثابة النبوءة والمعجزة فى الحياة الأدبية الثقافية المصرية: «قنديل أم هاشم»؛ عن الطالب الذى ينشأ فى حى من أحياء القاهرة القديمة بـ«السيدة زينب»  وهو الحى الذى يضم الضريح والمقام لرُفات «سيدة الديوان» كما يُطلق عليها العامة والبسطاء، ويسافر لدراسة الطب فى ألمانيا ويحتك ويتشبع بطرق الحياة الحديثة فى أجواء الحضارة الأوربية، ويعود إلى وطنه ليعمل طبيبًا لجراحة « العيون» بعيادته فى حوارى السيدة زينب، ليكتشف برؤيته وعلمه أن سبب زيادة المرض هو استخدام قطرات من زيت قنديل مسجد «أم هاشم»، ويتم علاج حبيبته أو خطيبته بالأسلوب نفسه الذى يذهب بهم إلى ظلمات دياجيرالعمى؛ فيقوم بتحطيم القنديل! ليتم اتهامه من الأدعياء والموتورين بأنه يحطم «التابوهات» المقدسة ويعبث بالمعتقدات والأعراف الخاطئة السائدة؛ ويستهزىء بالموروث المهترىء الخائب! 



 

ولكننا ـ للأسف ـ لم نعِ أهداف تلك الرواية التى أنتجتها السينما المصرية فى آواخر ستينيات القرن الماضي؛ حتى داهمنا قطار العلم والتكنولوجيا ليدهس فى طريقه كل الطرق التى ابتدعها شيوخ الغبرة على الشاشات والمنابر؛ وقساوسة الكنائس فى عظاتهم؛ وانتشرت تلك الأحجيات والأحاييل و»البدع» انتشار النار فى الهشيم على شاشات السينما والتليفزيون؛ وامتلأت بها شرائط الكاسيت فى سيارات الأجرة الزاحفة كالديدان الملوثة بين الأقاليم؛ للترويج لعلاج الأمراض بـ«زيت القنديل» و«بول البعير» و«حبِّة البرَكة» و«تراب المدفأة» و«تعليق الأثرعلى بوابة «شيَّال الحمُول» المتولى» و«حجاب جلب الحبيب» و«الرسائل إلى أضرحة الأولياء»؛ وتفرغوا للتفنن فى إصدار فتاوى ـ أخجل من استعراض بعضها ـ  ماأنزل الله بها من سلطان ولا سندِ لها من سُنَنٍ أو فرائض.... إلخ كل هذه الخرافات التى ركبت واستفحلت داخل العقل المصرى والعربى فى فترات التعتيم والإظلام التام ـ المُمنهجة والمقصودة ـ على العلم والعلماء والبحث العلمى، ورصد الميزانيات للصرف على كل هؤلاء الأدعياء الذين اختفوا الآن هربًا من أمام اجتياح أمواج إعصار «تسونامى كورونا» الذى يضرب شواطيء بحار حياتنا؛ ولتخطف «حيتانها» أعز الناس إلى قلوبنا وحياتنا الهادئة المُستكينة والمستكنَّة برغم الفقر والحاجة؛ ولكن المصرى استطاع دومًا أن «يُكيِّف» حياته على الصبر والستر والرضا والقناعة، وهذا هو مايلعب على أحباله دائمًا كل من مرُّوا على كرسى السلطة فى وزارتى التعليم والصحة! ولهذا حديثٌ ذو شجون.. لأنهما أهم ملفات حياتنا المعاصرة إذا ابتغينا الصلاح والفلاح  والتقدم ومواكبة أحداث وتقلبات الزمن!

 

ولست فى سبيلى للتهكم أو السخرية من قولى: شكرًا لهذا التسونامى أو القنبلة «كورونا» التى قصفت شظاياها كل أركان المجتمع الإنسانى فى العالم حتى داهمت مصر، فلقد فتحت أعيننا النائمة ـ أو بالأحرى «المُتناومة» ـ عن الكثير من أوجه القصور المخزى فى المنظومة الصحية فى أساليب وطرق العلاج بالمستشفيات العامة .. بل الخاصة؛ هذا القصور والتقصيرالناتج ـ فى الأساس ـ عن اهتراء المنظومة التعليمية بتنوعاتها ـ الأدبية والعلمية العملية ـ  التى تُخِل بمفاهيم الثقافة الجمعية المُفترض فيها أن تكون ذات الفكرالواحد، فلقد تشتتنا بين الأنظمة التعليمية الأمريكية واليابانية والألمانية ومدارسهم وجامعاتهم المُتاحة لكل أصحاب الثروة والنفوذ، وبين المنظومة المصرية الفقيرة المتخبطة والمتأرجحة دون استراتيجية محددة، لا تخضع أصلا  لرأى ورؤية ورغبة وأهواء من يجلس على كراسى هاتين الحقيبتين !

 

لقد تنبهنا ـ خلال تلك الجائحة القدرية ـ إلى ضرورة تعميم «العلاج المُيسَّر» ولن أقول «المجاني» على كل من يأتى إلى الحياة على أرض مصر، وأن تُكتب مع شهادة ميلاده  «شهادة متابعة صحية» تلازمه من المهد إلى اللحد، حتى لايُترك الفقير ليموت على أبواب المستشفيات العامة للإهمال، أو ليموت على باب المستشفيات الخاصة لأنه لايملك ثمن المبيت والعلاج ـ ولو ـ  لليلة واحدة بما يوازى خمسين ألف جنيه.. جنيه ينطح جنيه ! وحتى إذا كان يملُك هذا المال وتربع فوق سريرليحظى بعلاجٍ ناجع، فإنه لن ينجُ من الحقد والحسد واتهامه واتهام الدولة بالتقصير والتحالف مع «عزرائيل» للقضاء على حياته؛ والعمل على زيادة احتقان «غُدة الحقد الطبقى» غير مأمون العواقب!

 

لذلك ،فإننى أنادى  باللجوء ـ كما لجأت الثورة المصرية ـ إلى التأميم للمصانع والشركات فى ستينيات القرن الماضى لتحقيق السيادة والكرامة؛ حين تحكمت الرأسمالية فى مفاصل الدولة وتوجهاتها والتسلط على الحكم؛وأطالب كذلك باستخدام الدولة لحق أصيل من حقوقها وهو المبادرة بإعداد مشروع «تأميم الطب» وتمصير الحقل الطبى بالكامل من مستشفيات وعيادات؛ حفاظًا على كرامة المواطن قبل صحته؛ فالمواطن بلا كرامة.. كأعجاز نخلٍ خاوية!

 

لقد تنبه الدخلاء على حكم الوطن المصرى فى العصر المملوكى إلى هذه المعادلة؛ فأنشأ الحاكم «السلطان سيف الدين قلاوون»  مجموعته التى تتكون من مسجد ومدرسة وبيمارستان لعلاج المرضى بالمجان؛ ومازالت مستشفاه على قيد الوجود بشارع المعز لدين الله الفاطمى!

 

فهل نحن نطالب بالمعجزات ـ الآن ـ  فى ظل قيادتنا الوطنية المخلصة؛ التى تسعى بكل الجهود فى مجالات الحياة كل لإسعاد المواطن المصرى والحفاظ على كرامته أمام غوائل المرض والجوائح القدرية التى تحاصرنا؛ ويبدو أن الأمد سيطول بنا إلى أن يقر الله أمرًا كان مفعولاً؛ وتنزاح تلك الغيوم التى ظللت سماء الوطن.. بل العالم شرقه وغربه. 

 

فى انتظار شمس الأمل التى تشرق فى سمائنا.. لتعود عجلة الحياة الجميلة الطبيعية إلى الدوران من جديد.  وندعو الله أن يقينا ويقيكم من كل الشرور والجوائح.

 

أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون