كعكة الانتصار.. وفتاوى التعافى!
من عاداتنا وأعرافنا وتقاليدنا فى المجتمعات المصرية ـ وربما العربية أيضًا ـ أن نقوم بترديد بعض المعانى اللفظية التلقائية المُحمَّلة على اللغة؛ فإذا ما ذكرنا كلمة : (الفول) فإننا نعقبها بكلمة : (الفلافل)؛ الأبيض/الأسود،الوفاء/الخيانة،الصدق/الكذب، الشرق/الغرب، السماء/الأرض، الجنة/النار، الملائكة/الشياطين، العافية/المرض ... إلخ هذه المتلازمات اللغوية التى تتكرر بعفوية من خلال معاملاتنا اليومية فى مجالات الحياة كافة!
ولكن الغريب أن بعض «المتحذلقين» و«المتشددين» ـ وما أكثرهُم ـ فى تفسير وتأويل بعض ماجاء بالتراث العقائدى والدينى وكتبُهم التى وصلت إلينا عن طريق «الاجتهاد» و«العنعنة»؛ يصرون على المقارنة والمقارعة الدائمة بالربط بين لفظى ( الدين/العِلْم )؛ لاعتقادهم الراسخ بأن كل خطوة ناجحة يكسبها ( العِلْم ).. يخسرها (الدِّين) فى صراعات ماراثون الحياة.. والعكس صحيح! وهذا يُعد ـ بالطبع والمنطق ـ اعتقادًا خاطئًا جملةً وتفصيلاً!
فلم يكد الأطباء والعلماء يعلنون عن الأمل؛ فى اقتراب تحقيق الغاية المنشودة باكتشاف العلاج الناجع للفيروس الخبيث الذى اجتاح جنبات العالم مؤخرًا؛ وهو «فيروس: كوفيد 19» والقضاء عليه من خلال مايسمَّى علميًا بـ «بلازما المتعافين»؛ وهى المادة المأخوذة من كريات الدم فى «جسد المتعافي»؛ ويتم حقنها فى جسد المرضى الجُدد لتمام التعافى وبدء الدورة من جديد فى متوالية لا نهائية للقضاء تمامًا على هذا الفيروس اللعين.
أقول: لم يكد العلماء والأطباء يعلنون عن اقتراب تحقيق هذا السبق العلمي؛ حتى قفز إلى مقدمة الصفوف من يطلقون على انفسهم اسم : رجال الدين. فقد استرعى انتباهى ماساقته لجنة الفتوى فى «الأزهرالشريف»؛ وكأنهم يريدون الاحتفاظ ـ بدرى بدرى بنصيبهم فى «كعكة الانتصار» ـ
المُنتظرة ـ على الفيروس اللعين دون جهدٍ يُذكر فى هذا المضمار؛ اللهم إلا من بعض الجهد فى صياغة بضعة أسطر فى فتوى مقلقة فحواها يقضى بــ: «... التأكيد على وجوب تبرع المتعافين من فيروس كورونا بالبلازما، وحُرمة الامتناع عن التبرع بغير عذر، وأن الامتناعُ بغير عذرٍ لا يجوز شرعًا ويؤثَّم المُمتنع...» هكذا !!؛ و»... أما امتناع المتعافى عن التبرع مع قُدرته فشُحُّ نفسٍ، وضعف يقين، وأَثَرة وأنانية، ولا شك هى أمور مذمومة، مذمومٌ من اتصف بها آثم ولا شك أن منع البلازما بغير عذر من منع الماعون»؛ و«أن الممتنع عن بذل ماء فائض عن حاجته لمن يحتاجه جازاه الله تعالى بأن منع عنه فضله ورحمته، والامتناع عن التبرع بالبلازما دون عذر أولى بالذمِّ من البخل بالماء؛ لأن الماء مهما عزَّ يمكن الوصول إليه؛ بينما بلازما المُتعافين لا يمكن الوصول إليها إلَّا من خلالهم ...» . فمدعاة القلق هنا أن نبرة التهديد والوعيد ـ كما يحدُث فوق منابرالمساجد والزوايا ـ هى اللهجة السائدة : حُرمة الامتناع عن التبرع بغيرعذر/ يؤثَّم المُمتنع /امتناع المتعافى شُحُّ نفسٍ، وضعف يقين، وأَثَرة وأنانية/يجازيه الله تعالى بأن يمنع عنه فضله ورحمته . هكذا !!، وبالتدقيق فى هذه «الحُزمة» المُعلبة الجاهزة من العقوبات المشرعة كالسيف فوق رقاب البلاد والعباد؛ نجد أنها لغة تنفِّر ولا تُيسِّر أى عسير، وهى لغة متعالية وكأن أصحابها يمتلكون مفاتيح صندوق صكوك الغفران؛ أو أنهم الأصدقاء ( الأنتيم ) لـ «رضوان» خازن الجنة شخصيًا ! وهناك أحاديث جانبية لهؤلاء ـ بهدف تمزيق كل الأواصر الاجتماعية السويَّة ـ تصل إلينا عبر بعض «الملكيون اكثر من الملك» عن : ماهو حكم الشرع فى نقل «بلازما الدم» من «مسيحي» أو «بوذي» أو» زراداشتي» أو «كونفوشيوسي» إلى «مسلم».. والعكس ؟! وهى فتاوى غريبة وعجيبة؛ وتناسوا أن الإنسانية لاتعرف هذه التفرقة السمجة التى تجلب الغثيان لمجرد الاستماع إلى تلك الأقوال المحبطة، فالدم بكل تركيبة مكوناته وجيناته «أحمر» فى كل أجساد البشر الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى على وجه الأرض.
وفى اعتقادى أن هذا الأسلوب الفج.. لايجيء إلا بالنتائج العكسية تمامًا، علاوة على عدم اختصاصهم فى هذا السياق كمتاجرين ومروجين لسلعة العلاج بـ«بول البعير» و»حبَّة البركة» و«رسائل الشكوى إلى أضرحة العارفين بالله»، بما يعنى ألا ناقة لهم ولا جمل فى المسألة العلمية برمَّتها؛ سوى شهوة امتطاء صهوة الأحداث ليس إلا؛ والعمل المُتعمَّد على خلق أزمة داخل الأزمة الأساس التى سنتناولها بالتفصيل عن موقف المصابين بـ«فيروس كورونا» والمستهدفين للعلاج العلمى البحت بـ«بلازما المتعافين» !
كانت نقطة البداية المبشرة بالخير؛ هى التبرع بالبلازما «طواعية وبالمجان» من المبتهجين بفرحة الشفاء ونشوتها، ثم كانت المفاجأة التى صدمت البعض هى قيام «المستشفيات الخاصة والعامة» ببيع ماجلبته بالمجان بعشرات الألوف من الجنيهات لمن يحتاج ! وهذا ماأثار حفيظة البعض تجاه هذا التصرف الانتهازي، ولتبدأ المساومات من جهة «المتعافين» الذين وجدوا الفرصة فى الحصول على جزء تعويضى عما تم إنفاقه أثناء العلاج وفترة العزل، خاصة من الفقراء أصحاب المهن التى تضررت بالإغلاق ومواعيد الحظر؛ والجزء الثانى جاء عن طريق «المتاجرين» بآلام البشر بالقيام بالوساطة بين «المستشفيات» و«المتعافين» والحصول على نسبة لاتقل عن 30% من حصيلة البيع ! وفى الحالين نحن نتساءل : أين دور الدولة فى تنظيم هذه «السوق» التى أصبح لها وسطاء ومنتفعين وسماسرة ومتاجرين.. حتى بأجساد الموتى !
نحن ننتظر الكثير من المعايير التى تضبط إيقاع العمل فى هذا المضمار، وحتى لانترك أصحاب الفتاوى وغيرهم فى إثارة البلبلة بين الحلال والحرام، والالتزام بمواثيق شرف مهنة الحفاظ على الحياة.. والوطن ومواطنيه.
أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون