بين الدين.. والسياسة !
مما لاشك فيه أن هناك بونا شاسعا يفرق الدين عن السياسة، فهما نقيضان بمعنى ان: الدين .. خلق عظيم، والسياسة .. خدعة ومناورة وتوظيف للعلم بدهاء .
معظم علماء الإسلام وأئمته عبر التاريخ؛ لم يخلطوا الدين بغيره من شئون الدنيا، واستنكروا سلوك الفرق الدينية التى قامت بتوظيف الدين فى السياسة مثل فرقة الخوارج، فالخلفاء والملوك والسلاطين المسلمون كانوا ـ دائمًا ـ حكامًا مدنيين يفعلون ما يفعله حكام العالم المتقدم اليوم من فصل للدين عن السياسة ورعاية المؤسسة الدينية فى الوقت نفسه، وهذا ما كان يحدث فى مصر منذ الفتح الإسلامى حتى اليوم . وعثمان بن عفان يقول إن الله لينزع بالسلطان مالا يُنزع بالقرآن، وهذا فصل صريح بين السلطة والدين . ومصطلح الإسلاميين وما شابه يعد مصطلحًا حديثًا ليس له وجود مسبق فى القرن العشرين . الخلاصة إذا كان الأمر كذلك، فالنظام الديموقراطى هو السبيل للحكم لأنه آخر ما توصلت إليه الخبرة الإنسانية، وعندما مات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم يترك وراءه أى نصيحة حول حكم المسلمين من بعده.. وكانت «السقيفة» معركة باردة بين الأنصار والمهاجرين؛ وانتهت بفوز المهاجرين، ولم نسمع من فم أحدهم كلمة واحدة عن دورالدين فى الحكم، بل اجتهدوا مستفيدين من النظام الرومانى، و حادثة سقيفة بنى ساعدة وهو اسم أطلق على ما حدث فى سقيفة بنى ساعدة بعد وفاة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث اجتمع فيها عدد من الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ ودارت بينهم مفاوضات انتهت فى النهاية باختيارأبى بكر الصديق كأول خليفة للمسلمين، وتعددت الروايات حول ما حدث تحديدًا فى هذه الحادثة، واختلفت الرؤى على صحة الاختيارأو الشورى فى المفاوضات، وتعد حادثة السقيفة أهم جذور الخلاف السنى والشيعى ونقطة خلاف دينية وتاريخية .
وعندما بدأت الفتوحات العظيمة فى عهد «عمر» أمرالخليفة بترك الشئون الخاصة بإدارة البلاد للموظفين أنفسهم الذين فعلوا ذلك فى عصر الحكم الروماني، ثم قام عمر بتدوين الدواوين مستعينًا بتلك الخبرة الرومانية، والمذهب الإسلامى الوحيد الذى خلط الدين بالسياسة «الشيعة» لإضافتهم «الإمامة» إلى فروض أسس الإسلام الخمسة، ومع ذلك عندما حكم الشيعة مصر وفشلوا فى تشييعها اضطروا إلى الحكم المدنى الذى يُرضى المصريين، وتوقفوا عن الشعائر الجنائزية القاسية التى تملأ بها الشيعة حياة أتباعها؛ وعلى النقيض من ذلك أحيوا الأعياد المصرية الفرعونية والمسيحية وملأوا شعائرالأعياد الإسلامية بالبهجة والحبورمثل عيد «مولد النبي» فهم أصحاب فكرة حلوى المولد .
إذن .. وباختصار شديد لا يجوز الخلط بين العمل السياسى والدعوة الدينية؛ فرجل الدين مكانه أن يعتلى منابر المساجد ليطرح عظاته على جموع أتباعه ومريديه؛ ولا يعتلى منصة مجلس النواب بأى حالٍ من الأحوال؛ لأن قناعة رجل الدين الإسلامى أن أحد الثوابت للدولة الدينية ـ بحسب تصوره ـ رفض الفصل بين الدين والسياسة؛ وهما فى كل الأعراف والقوانين : نقيضان كقطبيْ المغناطيس يتنافران ولا يتجاذبان !
فالسياسة تنظم علاقة الإنسان بشئونه الدنيوية، والسياسى وكما هو معروف ــ لا يثبت على موقف ولا تحكمه مبادئ ثابتة، فالذى يحركه هو حزبه، وهى لغة اقتناص المُمكن بميكافيللية صارخة، أما الدين فهو يقوم على ثوابت لها قدسيتها عند معتنقيها، فالخطورة تكمُن فيما نشاهده من أن رجال الدين يخلطون بين برامجهم السياسية والدين، وأى نقد لتلك البرامج هو ضد الدين فى اعتقادهم، وقد تصل النتيجة إلى إصدار الفتاوى بالقتل والتكفير والردة ضد الخصوم السياسيين .
إن ما نشهده اليوم فى عالمنا العربى من إقصاء وحروب تشن باسم الدين نتيجة طبيعية لانخراط رجال الدين فى السياسة، فهم صوروا لنا أن من يخالفهم بالقضايا السياسية كفرة وعلمانيون، والتاريخ يذكر أن العالم الغربى مرّ بهذه التجربة المريرة عندما كانت الكنيسة تحكمه وخاضت تلك الشعوب حروبًا واقتتالاً باسم الدين، وتكونت طبقة رجال الدين هناك، حاربت التقدم الاجتماعى والعلمى وأعدمت الفلاسفة والعلماء.. نحن غير مجبرين أن نعيش التجربة المريرة نفسها وندفع ثمنها من دماء شعوبنا؟
وهنا يُطرح السؤال: ماالمطلوب؟
فنجيب: إيجاد آليات فعالة لتنظيم العلاقة بين الدين والسياسة؛ تقود نتائجها لصالح استقرارالمجتمع وصالح المواطن وقدسية المواطنة؛ والابتعاد عن «تسييس الدين» لأنه يقود إلى تقسيم المجتمع وشرذمته على أسس طائفية ومذهبية؛ و«كل حزبٍ بما لديهم فرحون»؛ ولا مانع عندهم من تطبيق نظرية القوة فى أن مالا يحسمه الفكر والنقاش.. ستحسمه ـ بالضرورة ـ القوة الغاشمة ورصاص البندقية!
فقط.. نحن نتمنى انحسار موجة العنف والإرهاب التى عشناها ونعيشها ويعيشها العالم مؤخرا؛ بفعل العناصر المتطرفة، ونتوق إلى رأب الصدع الذى خلفته ضربات الإرهاب الغاشمة هنا وهناك؛ حفاظًا على ترابط المجتمع والوشائج الحميمية داخل الدولة المصرية.. فكلنا مصريون؛ فدعوا ما للدين .. للدين؛ وما للسياسة .. للساسة.. أما الوطن فلنا جميعًا !
أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون