الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الإنسان .. وجاذبية الدراما!

الإنسان .. وجاذبية الدراما!

يقول الفيلسوف اليونانى «هيرقليطس»: إنك لاتستطيع أن تستحم فى البحر مرتين! لاكتشافه بالملاحظة وإعمال العقل أن الوجود فى تغيُّر دائم، وتوصل إلى تلك الحقيقة عندما نظر إلى النهر فوجد مياهه تتحرك فى سرعة عجيبة وكأنه يرى ثعبانًا يزحف! أى أنه قد تغيّر فى ثوانٍ، وعن طريق إعمال العقل والملَكَات التى منحها الله للإنسان؛ توصل «نيوتن» إلى قانون الجاذبية عندما سقطت على رأسه تفاحة، ممَّا حفَّزه على سرعة التفكير وتشكيل نظريته عن الجاذبية الأرضية، لإيمانه أن «الفكرة» تلمع فى أفق الإنسان كالشهب الخاطف وربما لن تعود مرة أخرى كمياه البحر، فكانت تلك النظرية إرهاصة للتوسع فى علوم الفيزياء والفلك، ولكن ما يعنينا فى هذا المقام، هو «الجاذبية الإنسانية» والفطرة النقية التى خلقنا الله عليها.



واسمحوا لى أن أختلف مع مرجعية البعض إلى أن الجاذبية المستمرة بين الدراما والإنسانية بدأت عند الإغريق، وأنهم أول من قاموا بتوظيف الجاذبية المسرحية لتربية الأخلاق وتنمية الذوق وتقويم مواطنيهم وإمدادهم بخبايا الذائقة الجمالية، عن طريق الرسائل والمواعظ كما تقول الأساطير.

واستنادًا إلى الباحثين فى هذاالمجال فيقينا أن الأدب المسرحى بدأ فى مصر الفرعونية قبل «اليونان» بما يقرب من ثلاثة آلاف عام، ويوضح الباحثون أن هذا يتضح من تمثيلية «منف» فى عهد الملك «مينا»، ومسرحية التتويج فى عهد الملك «سنوسرت الأول»، وكذا مسرحية انتصار «حور» على «سِتْ» إله الشر قاتل والده «أوزوريس»، بل يقولون إن كاتب هذه المسرحية هو الحكيم «أمحُتب» فى عهد الملك «زوسر»! واعترف بتلك الحقائق المؤرخ اليونانى «هيرودوت»!

وللحقيقة لم يقتصر المسرح المصرى فى حقبة الفراعين الأوائل على عتبة المعابد بل خرج إلى عامة الشعب، وتقوم بالتمثيل فرق متجولة مطعمَّة ببعض الرقص والغناء، ثم تلى ذلك اندثارا لتلك القفزات الفنية فى المجتمع وتلاشت معالمه فى حقبة مصر تحت السيطرة الرومانية واليونانية، وظهر ذلك جليَّا بعد ظهور المسيحية لاتهامها ـ منذ ظهورها ـ بالوثنية. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل جاء عتاة السلفيين من المتأسلمين دعاة الانعزالية؛ ليشنُّوا الحرب الضروس على النشاط المسرحى والفنون بكل أشكالها، إلى أن جاءت الانفراجة فى عصور التنوير، وعاد المسرح إلى نشاطاته فى ظل الكنيسة ابتداء من القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، فظهرت تمثيليات المعجزات الخارقة التى تناولت حياة السيدة العذراء وبعض مشاهير القديسين الذين حفل التاريخ بمعجزاتهم المتداولة بين عامة الشعب داخل المجتمع.

وآن لنا الآن أن نخرج من عباءة التاريخ؛ لنهبط إلى استعراض مرحلة العصر الحديث منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، والتحولات التى جرت عليه بعد ثورة يوليو 1952؛ لنشهد ونقارن بين مسرح الثورة، وثورة المسرح، ومحاولة استبيان أين نحن الآن من الدراما المسرحية وعلاقتها بالجاذبية الإنسانية نحو الدراما وتأثيرها على الوجدان وتشكيل الإحساس الجمعي.

فقد كان المسرح آنذاك يميل إلى تقديم المسرحيات المترجمة التى يتم تمصيرها باللجوء إلى الرمزية هروبًا من الملاحقة الأمنية من سلطات القصر والاحتلال الإنجليزي، ولمعت فى عالم المسرح أسماء مثل يوسف بك وهبى وجورج أبيض ونجيب الريحانى وغيرهم، ومما لا شك فيه أن نجيب الريحانى ترك بصمةً كبيرةً على المسرح المصرى والسينما، حتَّى لُقِّب بِـ «زعيم المسرح الفُكاهي» فى مصر وسائر الوطن العربي، ويرجع إليه الفضل فى تطوير المسرح و فن الكوميديا فى مصر ، وربطه بالواقع والحياة اليوميَّة فى البلاد بعد أن كان قبل ذلك شديد التقليد للمسارح الأوروبيَّة، ويُعرف عنه قوله: «عايزين مسرح مصري، مسرح ابن بلد، فيه ريحة «الطعميَّة» و«المُلوخيَّة»، مش ريحة «البطاطس المسلوق» و«البُفتيك»...»... مسرح نتكلَّم عليه اللُغة التى يفهمها الفلَّاح والعامل ورجل الشارع، ونُقدِّم لهُ ما يُحب أن يسمعهُ ويراه...»!

وبالفعل كانت روح كلمة هذا الرائد عن فن المسرح وأهدافه، هى ما استقرت عليه عقيدة كتَّاب المسرح بعد قيام ثورة يوليو، وارتبط المسرح حينها بالقضايا الاجتماعية والعدالة الإنسانية، خاصة عندما اتضحت معالم «الفكر القومى» والاجتماع على هدف ومشروع قومى، فكان من المستحيل أن يتغافل المسرح عن معالجة تلك القضايا والمشكلات بعد سنوات احتلال طويلة، وظهر عمالقة الكتابة للمسرح فى مرحلة الستينيات التى تواكبت مع ظهور مدرسة الواقعية كمدرسة ذات منهج وأهداف بالتعبيرعن الشكل الأدبى والفنى لصالح توجهات المجتمع الجديد، فكانت بالفعل ظاهرة تستحق ـ خاصةالآن ـ التوقف والدراسة عن مسرح الثورة وثورة المسرح ـ لإمكانية الاستفادة ومعرفة أسباب النجاح والازدهار لتلك الموجة فى تلك الفترة من عمر النضال المصرى  والتى لم تنحسرإلا بعد الانكسار العسكرى فى 1967ـ فاجتاحت المسرح جحافل المتاجرين بأحزان الوطن بنشر المسرح التجارى الذى أهدر كل قيم ومبادئ المسرح المتعارف عليها منذ قديم الزمن، ناهيك عن انشغال الدولة وميزانيتها فى إعادة تسليح الجيش تمهيدًا لانتصار أكتوبر المجيد فى العام 1973.

والآن نرى أن الكُرة فى ملعب الفنانين المسرحيين على الساحة الثقافية المصرية، بعد استعادة مقاليد الأمور، بتحقيق الأمن والأمان والاستقرار على الساحة السياسية، واستعادة دور مصر القيادى بين دول العالم، للعمل الدؤوب على استعادة دور المسرح المصرى فى إحياء وتأصيل الجاذبية الإنسانية نحو الدراما، وتأجيج جذوة هذا الفن العظيم قبل أن تخبو وتنطفئ فى طيات جيوب المتطلعين إلى تحقيق المكاسب المادية بهذه القنابل الموقوتة التى نشاهدها على صعيد الفن المسرحي.. إلا من رحم ربي، وهم قلَّة لاتتفق وأمجادنا العظيمة فى هذا المجال، ولنقتنص الفرصة للنهوض، كما اقتنص «نيوتن» تلك اللحظة الفارقة فى عمر العلوم الإنسانية الراقية الرفيعة. أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى بأكاديمية الفنون