الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«بولدينى» أهم أساتذة الفن المنسيين

«بولدينى» أهم أساتذة الفن المنسيين

تعتبر الشهرة فى الفن التشكيلى نسبية إلى حد بعيد لذا ليس من الصعب أن تجد عددًا كبيرًا من الأستاذة فى الفن التشكيلى فى محور العباقرة والمبدعين الحقيقين لكنهم مغمورون على الرغم من أانتشار أعمالهم الواسعة وخصوصًا فى الفترة الواقعة فى حقبة التحول الكلاسيكى والرومانسى أى فى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ويعود ذلك لأمرين أولهما أن بعض هؤلاء الأستاذة اهتموا أكثر بالفكرة التجارية مع الوضع فى الاعتبار أنهم لم يفرطوا قط فى القيم الفنية لكن انتشارهم الواسع كان له هذه القيمة التجارية وهذا جعلهم أحيانًا بعيدين عن عيون النقاد ولب التنظير، أما الأمر الثانى فهو أن هؤلاء الأساتذة صادف أوج تألقهم وعطائهم  نشوء وتطور موجات الحداثة ودخولها حيز الانتشار بل وأحيانا الهوس مما جعل هؤلاء الفنانين العظماء فى حيز الكلاسيكية الخاملة من وجهة نظر المدارس الطليعية.



وموضوعنا اليوم هو أحد هؤلاء الأساتذة الكبار الذى طالتهم يد الغبن والنسيان أحيانا وهو الفنان الكبير وأيقونة البورترية الإيطالى جيوفانى بولدينى والذى يقع بين عدة مقاييس وخطوط تجعلنا ندرسة داخل عدة أطر ويرجع ذلك لأسباب عديدة منها, أن جيوفانى عاصر مدارس كثيرة فهو من الناحية الزمنية عاصر الرومانسية ونهايات الروكوكو وعاصر الانطباعية والبريرافيليتيس وليس من قبل المبالغة ان نسلم بأنه أخذ من كل هذه المدارس كل بالتساوى وأضاف لمسته الخاصة والمميزة جدًا، أيضًا تقلبة من الناحية المكانية فى عواصم عدة للفن كل منها له مذاقه وتوجهاته الخاصة مثل فلورنسا ولندن وباريس, حيث تأثرت أيضًا توجهاته بهذه العواصم وموجات الفن فيها كما سوف نشرح بالتفصيل فيما بعد.

ولعلنا نريد هنا انصاف قضية فنية مهمة وهى أن فن البورتريه الأمريكى والمدرسة الأمريكية التى اهملناها كنقاد بحجة أنها لم تكن غير استنستاخ لمدارس الفن الأوروبية  - وهذا بالطبع يجانب الصواب – على اعتبار أن المناخ الفنى فى أمريكا كان مجرد سوق ومنفذ لبيع الفن الأوروبي، لكن الحقيقة أن بدراستنا أساتذة منسيين مثل جيوفانى بولدينى فإننا نؤكد أن مدارس البورتريه الأمريكى تطورت كثيرا بمعزل عن المؤثرات الأوروبية فى فترة ما وهى تشابة بكل المقاييس حالة بولدينى الذى كان وما زال أيقونة منسية من أيقونات الفن التشكيلى .

ولد جيوفاننى بولدينى فى فيرارا عام 1842 وكان والده رسامًا نحريرا يعمل فى رسم وتجهيز المواضيع الدينية فى الكنائس ومنه تعلم بالدينى الكثير من أبجديات الفن كحرفة حتى أرسله والده إلى فلورنسا لحضور بعض الدروس الخاصة فى أكاديمية الفنون الجميلة فى تلك المدينة العريقة التى كانت مهداً لعصر النهضة وهناك حدثت له أول حالة تحول تؤثر فى فنه, حيث تعرف على الفنان الواقعى ماتشايولى والذى حمل على عاتقة التبشير بالانطباعية فى مدينة كلاسيكية عتيدة مثل فلورنسا وتأثر به جيوفانى بولدينى كثيرًا ويظهر ذلك جليًا فى لوحاتة التى تحتوى على خلفيات طبيعية فنجد أن الشخصيات رسمت فى مدرسة ما سواء واقعية أو كلاسيكية أو غيرها وخلفيات اللوحة انطباعية مما أعطى لبولدينى بعدًا خلاقًا وخصوصًا بين أقرانه الباريسيين فيما بعد والذين كانوا قد خطوا بالفعل خطواتهم الأولى نحو مدارس التجديد ومنها الانطباعية والتأثيرية وغيرها.

انتقل بولدينى بعد ذلك فى أواخر ستينيات القرن التاسع عشر إلى لندن وهناك أحرز تقدمًا وشهرة كبيرة بعد أن قام برسم بورتريهات رسمية للعديد من وجهاء المجتمع الإنجليزى ومن بينها ليدى هولاند دوقة ويستمنستر الشهيرة ونتوقف هنا لاستجلاء تأثير هذه الإقامة اللندنية على تقنيات بولدينى فليس من الصعب استجلاء تأثير الموجات الفنية فى لندن فى هذه الفترة داخل أعمال بولديني، فوجوه بولدينى فكتورية إلى حد بعيد وبها تأثيرات واضحة من البريرافيليتيس، وليس هذا ببعيد لأن بولدينى دخل لندن وبها هؤلاء المتحدين لإعادة تقاليد الفن لما قبل رافييل سانزو وعلى رأسهم روسيتى ومادوكس و وتروهاوس لذا تأثرة بهم وارد وليس محل شك بأى حال من الأحوال .

إن كانت المقولة التى تقول: إن الفن يتجمد فى لندن أحيانا بفعل برودة الأجواء فإن هذا ما أدركه جيوفانى بولدينى بعد أن أحرز نجاحات كبيرة فى لندن فقرر فى عام 1872, أن يقفز إلى باريس ليعيش كل حيوية الفن فى عاصمة النور وقبلة الفنانين، وهناك وجد بولدينى طريقه سريعًا بعد أن ارتبط بصداقة وطيدة مع إدجار ديجا وقفزت أعماله لمدراج الشهرة حتى أنه أصبح فى أقل من خمسة أعوام موضة فن البورتريه فى باريس ويصفه البعض مثل آلان رينيه بأنه أحد عباقرة فن البورتريه الأنيق ويعود الفضل فى ذلك كما قلنا لتأثير أستاذه ماتشيولى الذى لقنه مبادئ الانطباعية والتى كانت قد بلغت شأناً بعيدًا بين فنانى باريس فجمع بذلك بين أصالة الكلاسيكية ورقة الفكتورية وحداثة التأثيرية وحيوتها وبهذا الاقتدار أثر فى فنانين شبان كثيرين من بينهم جون سيرجنت و بول هاولو.

أصبح جيوفانى بولدينى علما متوجا فى باريس حتى أنه عيّن من قبل حكومة إيطاليا ملحقا ثقافيا وفنيا لها فى باريس، وتوجت نجاحاته بحصولة على اللوجيون دونير – وسام الفارس الفرنسى – عام 1889 ومات بباريس عام 1931 بعد أن كان ملهما للعديد من الأعمال الفنية ومن بينها الملحمة التمثيلية الشهيرة ( العصر الجميل – بيلا ايبيكا ) التى ألف موسيقاها وكتبها الفنان الإيطالى الكبير لورنزو فيريرو وكان جيوفانى بولدينى إحدى شخصياتها فكان هو الملهم للبطلة دونا فرانكا سيدة الفن الشهيرة .

وبعد ان طالت يد النسيان شخصية بولدينى فجر التاريخ منذ عشرة أعوام فقط فى 2010 حدثا غريبا أعاد بولدينى تحت الأضواء بشكل كبير دام عدة أشهر وهو اكتشاف شقة باريسية مغلقة منذ سبعين عامًا كانت مملوكة للفنانة الباريسية الشهيرة مارثا دى فلورين والتى كانت إحدى صديقات بولدينى المقربين واكتشف فيها أكبر وأهم بورتريه لها رسمه بولدينى مع عدة اسكتشات له وهو من أضخم أعماله الفنية، وكانت حفيدتها قد هجرت الشقة ورحلت بعد الحرب العالمية الثانية وقضت باقى حياتها فى جنوب فرنسا وظلت هذه الشقة منسية لمدة 70 عامًا لم يدخلها أحد.. قدرت أعمال بولدينى المكتشفة فى الشقه بأكثر من 400 مليون يورو لكن الأهم من ذلك أن بولدينى عاد لدائرة الضوء والنقد مرة أخرى وبكل قوة حتى أن الجميع تذكر مقولة الموسيقى المعجزة جوسيبى فردى بعد أن رأى البوتريه الذى رسمه له بولدينى فقال: أعتقد أننى إذا رسمت بورتريه بحروف الموسيقى ونغماتها فلن أصور أكثر وأبدع مما فعله بولدينى.