السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
 «الشيطان طول الوقت» والعودة بالأدب الأمريكى كمصدر للدراما

«الشيطان طول الوقت» والعودة بالأدب الأمريكى كمصدر للدراما

لعل من المنطقى والبديهى أن نعترف أن حركة الأدب فى العالم تمر بأزمة كبيرة فى الثلاثة عقود الأخيرة.. بل ليس من المنطق أن ننكر أن الأدب يقترب من انهيار القيم الجمالية التى تميزه بل والأكثر من ذلك أقل قواعد البناء فى الأدب تجاوزت مرحلة الضعف وأصبح النص الأدبى يفتقر إلى مصطلح الأدب ذاته، ولسنا هنا بصدد إعادة سرد هذه القيم لمن يحب أن يبدأ فى صناعة أدب متميزا لكننا فى الحقيقة بصدد قياس بعض العمليات الفنية التى تجرى على الأدب فى عالمنا المعاصر والتى أصبح بعضها يحاول جاهدًا أن يعيد للنص الأدبى هيبته وجزالته بل ويحاول إعادة إلى مساره الصحيح من ناحية النسق، والحقيقة أن الأدب الأمريكى والذى أصبح هو الآخر يعانى ضعفًا وغرائبية فى النص ما زال يحاول أن يولد من جديد ويعود لعصر المصدرية أى أن يكون النص الأدبى هو مصدر الفنون الدرامية والأدائية كما كان كذلك حتى حقبة السبعينيات ليس فى أمريكا فقط بل أيضا فى معظم أنحاء العالم، إذن لربما نحن على أعتاب صحوه تعيد للنص الأدبى هيبته. 



والسبب فى طرحنا هذه القضية أن السينما الأمريكية تحاول جاهدة – ولو بإنتاج فقير – أن تعيد النص الأدبى مره أخرى للصورة الكبيرة فى الإنتاج السينمائى وهذا يتضح جليًا فى أحدث أفلام هذا العام فى فيلم – الشيطان كل الوقت – أو The Devil All The Time  والذى  يستند على محاور أدبية قد تدخل فى نطاق تراث الأدب الأمريكى على الرغم من أن مؤلف القصة وهو روائى شهير وناجح من الروائين المعاصرين وعلى الرغم من قلة إنتاجه الأدبى إلا أنه يعتبر من أكثر الروائيين الأمريكين شعبية فى أوروبا وأمريكا وهو الروائى دونالد راى بولوك والذى يستند الفيلم على روايته الشهيره بنفس الاسم – الشيطان كل الوقت – وعلى الرغم من أن الروايه قد تبدو للمشاهد انها قصة أمريكية تصلح للسينما لكن فى الحقيقة احتاجت الرواية جرأة كبيرة لتتحول لفيلم سينمائي، فمن ناحية تعتبر الرواية مغامرة إنتاجية لكنها محسوبة لأنها من نوع الإنتاج الخاص بالقنوات الخاصة التى تبث على شبكات الإنترنت وهى شبكة نتفلكس التى بلغت قيمتها مليارات الدولارات بعد أن دخلت مجال الإنتاج الخاص بها منذ سنوات ... ومن ناحية أخرى هى مغامرة فى معالجة رواية أدبية تقترب للنمط الأمريكى الكلاسيكى وهو النمط الذى حققت به السينما الأمريكية نجاحات مذهلة بين الأربعينيات والستينيات.

تعتبر رواية الشيطان كل والوقت لدونالد راى بولوك والتى نشرت عام 2008 من الروايات التى تحتفى أسلوبا بالأدب الأمريكى الكلاسيكى أو دعنا نقول: إنه ما بعد الكلاسيكى ويعود ذلك لعدة عوامل, أولها أن الكاتب بنى شخصياته على نفس أسلوب كتاب حقبة الأدب الأمريكى ما بعد الكلاسيكى وتحديدا بين وليم فوكنر وجون شتاينبك فهى شخصيات شاذة وشديدة الغرابة والتى تكون منها الجيل الرابع من المجتمع الأمريكى المهاجر مشكلا شخصية الـ WASP  اى الرجل الأبيض الأنجلوساكسونى البروتوستانتي، وبينما تبدو للمشاهد أن هذه الشخصيات غريبة وشاذة إلا أنها ليست كذلك فى طقس بناء الشخصية فى الأدب الأمريكى فى القرن العشرين فهناك دائما الشخصية المهووسة دينيا التى يقودها هذا الهوس للشذوذ والعنف فى معظم الأحيان وهناك الشخصيات المضطربة جنسيا والتى تعانى هوسًا ما بالطقس الإيروتيكى الغريب والمقزز أحيانا وهناك أيضا شخصية البطل التى تجبرة قسوة الحياة فى الأقاليم الأمريكية القاحلة أو ذات الكثافة السكانية الخانقة مع وجود الكساد والفقر أن يتبنى العنف وسيلة للنجاة . 

فإذا نظرنا لشخصيات بولوك استطعنا بسهولة أن نلمح فيها شخصيات سابقة بشكل قد يتطابق أحيانا عند كل من وليم فوكنر و جون شتاينبك مع بعض الرتوش التى تناسب ملامحها الجديدة فشخصية روى لافرتى فى رواية بولوك ذلك المهووس دينيا الغريب الأطوار والذى تدفعة هلاوسة الدينية لقتل زوجته تذكرنا شخصيته بشخصية داريل عند فوكنر فى روايته الملحمية – بينما أستلقى محتضرا- فهو معتوه مصاب بهوس التنبوء بالمستقبل، وذلك الهوس الدينى والمتأرجح بين الشذوذ فى الخطاب (البشرى – الإلهي) والعقائدى المتمثل فى والد البطل عند بولوك يوجين راسل والذى يتعدى هوسه الدينى للعنف فيقوم بصلب كلب ابنه كأضحية لتشفى زوجته وهو نفس إطار الشخصيات الهوسية التى تمثل فلسفة الصخب والعنف عند فوكنر فهو يتطابق مع معظم هذه الشخصيات التى فقدت البصيرة فأصبحت تتصرف بعته وعنف.

كما نرى عند بولوك فى روايته – الشيطان طول الوقت – نفس إطار الفعل الجنسى عند فوكنر والذى عبر بصدق عن غرابة أهل الجنوب فى هذا الجانب، فشخصية ساندى وزوجها كارل هندرسون تعبر عن نفس الميول الغريبة والهوسية عند شخصيات فوكنر فساندى وزوجها يتجولون لإشباع رغبة غريبة فى اصطياد الغرباء وتصويرهم فى أوضاع مخلة ثم قتلهم فلا يتورع كارل أن يستخدم زوجته فى أشباع هذه الرغبة أو الهواية الشاذة ويذكرنا ذلك بالنمط الجنسى الغريب عند فوكنر فهناك بنجى المعتوه الذى يتم أخصاؤه لأنه حاول اغتصاب طفلة صغيرة فى رائعة فوكنر – الضجة والغضب – .. أيضًا يستخدم بولوك نفس التقنيات السردية التى يتخدمها فوكنر فمن ناحية الربط الزمنى يجافى أحيانا بولوك التنسيق الزمنى فى سرد الأحداث وهو نفس أسلوب فوكنر والذى يلقى بك فى خضم الأحداث ثم يجنح للتقسيم الزمنى ليروى كل واقعة على حدا ثم يربط حبات العقد أخيرا بإطار زمنى يرتب لك ما سبق وهذا ما فعلة بولوك فى روايته لذلك فإننا نرى أن لفتة مخرج الفيلم أنتونيو كامبوس فى استخدام بولوك كراوى يحكى الأحداث هى لفتة ذكية للغاية وضحت وجهة نظر بولوك وفوكنر فى تقنية استخدام الزمن عامل مشوق فى السرد.

الحقيقة أن بولوك عبر بشكل عجائبى عن حبائل شيطانية ربما أيضا فطرية خربت حياة شخصيات الرواية التى تسبح سباحة فى الصخب والعنف الفوكنرى إذا جاز التعبير، فسوء الفهم والجهل والاندفاع سار بالشخصيات كلها فى نفس الاتجاه وهو اتجاه التدمير الذاتى وكأنه انتحار مؤجل ومتفق عليه وليس هذا تعبيرًا مجازيًا, فبالفعل اثنان من أصل سبع فى شخصيات الرواية الرئيسة أنهو حياتهم بالانتحار والباقى قتل بيد البطل ... الرغبة الملحة فى التدين مع الجهل أفضت بشخصيات الرواية لمصيرهم المؤلم لذا ليس من العجب أن نعتبر أن رواية بولوك رواية فى نقد الدوجما والتدين المدفوع والأجبارى ومن ثم تعتبر شخصية القس الذى يغوى الفتيات ويستخدمهن لتحقيق رغباته الجنسية هى شخصية محورية ودافعة فى الرواية بل وهى مفتاح لتحليل العمل ذاته. 

حصلت رواية الشيطان كل الوقت للكاتب دونالد راى بولوك على جائزة دويتشر كيرمى العالمية لعام 2017 وجائزة كيتشن أوورد التى تمنحها جامعة ساوث إلينوى وجائزة ليلى شافن وجائزة ليتوراتيور بوليسير الفرنسية وجائزة لو ميستير دو لاكريتيك (جائزة النقاد لأدب التشويق) وهى جائزة فرنسية أيضا.