الخميس 3 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع ..

الحصيدة

الأعمال للفنانة: أسماء أبوبكر النواوى



يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة أو خواطر «على ألا تتعدى 550 كلمة» مرفقا بها صورة شخصية على الإيميل التالى:

[email protected]

 

الحصيدة

 

قصة قصيرة

 

كتبها - محمد فيض خالد

وأشرقت الأرض بنورِ ربها، وأقبل ضياء الصّبح الفضى، منبثقًا من الأفقِ الرّحب، تتلألأ حباته فى وهجٍ دافئ، بدت الشمس تطوى برودةِ الليل فى جوفها اللافح.

وبعد اشتياقٍ ؛ انسابت الحركة فى البيوتِ مدفوعة بمشاعرِ، تغمر أصحابها الجُدد، وهم يستقبلون يومهم الجديد، وعلى دفعاتٍ تتقادم أصوات الدّواب، تستعجل الخروج من ربقةِ الجدران الرّطبة التى أرهقتهم  ساعات الليلِ الخانق.

كانت أشعة الشمس قد بقّعت الجدران، وشرعت تزحف كأفاعى الجروفِ، فى فحيحها فوق الحقولِ، التى لبست منذ شهرٍ ثيابها الصُّفر اللامعة، تتأهب لاحتضانِ ألسنةٍ المناجل باشتياقٍ، كاشتياقِ أبناء الطّينِ، الذين هرعوا عندَ أولِ نفيرٍ ؛ يطلبون من المنعمِ سبحانه،  أن يجبر خواطرهم، تتوزع نظراتهم وهم سامدون، ما بين السّنابل الشّهبِ وصفحة السّماء الزّرقاء، وأياديهم مشرعة، وألسنتهم تلهج فى وجلٍ ورجاء، تستجدى السّماء من فضلها العميمِ.

استخفّ الطّرب بعضهم، فاندفع يترنّم بصوتٍ فيهِ صلابة، وكلّما ارتعش النّهارُ، وارتبكت الشّمس وتطوحت خيوطها المنشورة ناحية الغربِ، كلّما أشرقت الوجوهُ المتعبة ؛ تغبُّ من أنوارِ الفضاء المتسع، وامتلأت الحقول بالصمتِ، وبدأ الخلاءُ يطنُّ فى سكونه الموحش، فلا تسمع إلا صرخات عيدان القمح، تحت أسنانِ المناجلِ تلوكها، وأهراء القشّ تتعالى من خلفِ الأنفارِ، كتلالِ الرِّمالِ الشواهق، وخيوط التراب الأصفر تتلوى فوق جريدِ النّخيل،  تتراقص فى نشوةِ السّكرى ؛ يُباركُ كغيرهِ من أبناءِ الطبيعة، بواكير الخير الذى انتظر لعامٍ كامل.

دقائق واكتظّ الجو بضيوف الحصيد، يشاطرون أهل الحقولِ  احتفالهم السنوى، الغربان السّود تنعق بلا هوادة، والشواهين بسطت أجنحتها قادمة من الصّحراءِ فى تعالٍ، علّها تظفر خِلسةً بطريدةٍ من طرائدِ القشِّ، التى توارت عنها بينَ أحضانِ العيدان اليابسة. ظلّت الحقول تغبُّ فى سكونها المستفز، وقمم النخلات الحُمر تلهث عطشا، تتراءى من بعيدٍ كأشباحٍ وقت الهجيرِ، والعيون تجرى خلف المناجلِ المسعورة، وبكاء القشّ يطرب الآذان، والوجوه متسربلة فى ابتسامةٍ مُتألقة، والشمس تراقب من علٍّ، تتدفق خيوطها الحمئة تغسل وسن الحقول.

وقفَ عبدالصبور مُستطيلا بقامتهِ، والأمانى تتزاحمُ فى صدرهِ اليابس، يهرش شعرات صدره النافرات، تنمى لو استطاعَ أن يفتلَ حِبال الماضى، ويصنعَ منها حبلا يحزم بهِ مصاعب الحاضر، جعل يئن تحت قسوةِ الأيام، يستذكر كيف أضاعَ المرحوم أبيه فدانه الوحيد على موائد القمار وآنية الشراب، فاسلم من خلفهِ عبيدًا يلهثون وراء الأجرةِ، قبضَ كفه قشّا، وعادَ فى صمتٍ باك، والحزن يتحشرج بين ضلوعهِ، ونار اللّوعة لا تبرحه، وبينَ الفينة والأخرى، يزيل بكمهِ قطرات العرق المُتراقصة فوقَ حاجبيهِ العراض . 

وبينما قرص الشمس يتسرّبل من وراءِ أشجارِ الكافور العالية الملاصقة للجسرِ، دوى صوت استغاثةٍ، وألسنة النيران تتصاعد من جهةِ المصرفِ الشرقى، وصيحة مبحوحة تهتفُ فى حماسٍ : القط .. القط .. ذيل القط بيجر كرة اللهب.

هاجت الحقول وماجت، حتى استطاع الناس الإمساك بالقطِ بعد عناء ٍ، ولكن  قد فات الأوان، كانت ألسنة النار تجرى فى القشّ كالكلابِ المسعورة، وشمس النّهار الفاترة تتراءى بعيدا فى تكاسلٍ، والناس يشيعونها وعقولهم تبحث عن إجابةٍ، من أطلقَ القط المشتعل فى الحقولِ.. ؟