الخميس 25 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الوعى بالقانون.. عند ابن خلدون

الوعى بالقانون.. عند ابن خلدون

القانون .. هو الأساس الأول فى كل كتابات وإبداعات العالِم الموسوعى ابن خلدون، الذى له أصول حضرموتية وولد فى تونس وتجول فى مشارق الأرض ومغاربها طيلة 76عامًا هى عمره المديد تاركًا للبشرية تراثًا وكنوزًا معرفية غير مسبوقة مازال أثرها ممتدًا حتى اليوم .



وقد عاش ابن خلدون  فى مصر قرابة ربع قرن، أبدع فيها مؤلفات فريدة، حيث تميّز باتساع نطاق تأثيره فى عددٍ كبيرٍ من العلوم الإنسانية، فهو يعدّ مؤسِّسًا لعلوم الاجتماع والدراسات السياسية والتأريخ، كما نعرفه فى العالم اليوم كمجال لتحليل الأحداث وليس لسردها.

 فإنجاز ابن خلدون كان إنجازًا استثنائيًا، فقد غاص فى أعماق عصره ونفذ إلى جوهر الأمور دون الالتفات كثيرًا إلى الظواهر السطحية، وهذا ما جعل نص ابن خلدون ينطبق على عصره وعصرنا والعصور القادمة، فالقوانين التى انتهى إليها كان لها جانبان، جانب يتجاوز عصره وتصوراته ورؤاه، وجانب آخر يتجاوز عصرنا، وهذا ما جعله مصدرًا خصبًا متجددًا للمفكرين والباحثين. 

وهذا ما نجده - مثالاً لا حصرًا - فى القوانين التربوية التى وضعها.. والتى من أهمها الانتقال من المحسوس إلى المجرد حتى تشعل الذاكرة أثناء استدعاء المعلومة، وجودة نظام التعليم، وتقديم البسيط على المركب والمعقد، والتدرج فى التعليم، ومدارسة المتن التعليمى بين الأستاذ والمتعلم، ومراعاة المقدرة العقلية للمتعلم.

وقد كان المؤرخون قبل ابن خلدون يقعون فى أخطاء عديدة اضطرّته لوضع قوانين للبحث التاريخى العلمى الرّصين، وتنحصر هذه القوانين فى أربعة هي: قانون السببية، ومعناه أن هناك رابطًا بين الأحداث، وهذا الرّبط يرتكز على العلّة والمعلول، فليس هناك من حادثٍ إلا وله أسبابه، وليس من حادثٍ إلاّ ويكون سببًا لحادثٍ يتبعه.

فارتباط الأحداث ببعضها أمر لا مناص منه.. ثم يأتى قانون التشابه وهو أنْ نقيسَ الماضى على الحاضر؛ لأنّ الظروف المتشابهة تنتج وقائع متشابهة. ويقال فى هذا الصدد: «التاريخ يعيد نفسه»؛ لذلك يجب أخذ العبرة من أحداث الماضي.

 ويعدّ قانون التطور من أهم تلك القوانين، ومعنى ذلك أن الأمم قد تتغير بتغيّر الأزمان والأحوال، وأنّ قانون التشابه ليس مطلقًا. وقد كان ابن خلدون يصف أهل الشمال بالهمج بسبب تخلفهم فى السابق، ولكنهم التحقوا بركب الحضارة بل أصبحوا رموز الحضارة العصرية؛ إذ تبدّلت أحوالهم بعد وعيهم بنقائصهم وتداركها عبر القرون.. وآخر تلك الحزمة من القوانين قانون الاستحالة والإمكان، فهذا القانون يوجب النظر فى الوقائع والأخبار على ضوء العقل والطبع السليم. فما كان منها معقولاً يصبح داخل دائرة الممكن، وما كان غير معقولٍ يخرج عن دائرة الممكن ليدخل دائرة البطلان والاستحالة. 

ومن أهم قوانين ابن خلدون فى الدراسات السياسية أن الأمم المغلوبة تتبع الأمم الغالبة لها، وتقلِّدها، وتتبع خطواتها تلقائيًا وبدون تفكير أو توجيه أو أوامر تفرض عليها، إنه قانون بشرى طبيعى أزلى غير مكتوب، فالأضعف فيه يتبع دائمًا الأقوى، والأعمى يتبع البصير، والجاهل يتبع العالم، والعبد يتبع السيد، والطفل يتبع الوالد، وهذا القانون هو الذى يحرك قاطرة الحضارات التى تنشد دائمًا (العُمران)، وكما أن الإنسان يهرم فإن الحضارات كذلك تهرم، وقد تموت كذلك إذا لم (تنبجس) من داخلها معطيات جديدة خلاقة، وقد تكون تلك المعطيات مناقِضة تمامًا لقناعاتها التى جبلت عليها، وهذا هو تمامًا ما فطنت له الحضارة الغربية الحديثة؛ لهذا تراها على الدوام تعيد النظر بمسيرتها بواسطة النقد، وتباين الاتجاهات للأحزاب، التى تبدو فى الظاهر وكأنها متناحرة، فى حين أنها فى واقع الأمر إنما تشكل (إرهاصات ديناميكية) محرِّكة ودافعة لكل الأفكار والتصورات المستقبلية، وهى بهذه الحركة تمثل تمامًا حركة الدم فى جسم الإنسان، التى لو توقفت لمات الإنسان فى حينه.

ومن أهم أقوال ابن خلدون : «..فالقانون فى تمييز الحق من الباطل فى الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر فى الاجتماع البشرى الذى هو العمران ونميز ما يلحقه لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضًا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك، كان ذلك لنا قانونًا فى تمييز الحق من الباطل فى الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهان لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة فى العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معيارًا صحيحًا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه.»

وقد اختار الله سبحانه وتعالى لابن خلدون أن يتوفى فى مصر الكنانة عام 1406م، رحمه الله . 

وبالقانون تحيا مصر