الثلاثاء 20 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
عمار الشريعى فى ذكراه.. وموسيقاه المبصرة

عمار الشريعى فى ذكراه.. وموسيقاه المبصرة

قال العلامة شمس الدين التبريزى: لا أظن أن الله «عز وجل» منحنا الموسيقى ــ لا الموسيقى التى نصنعها بأصواتنا وآلاتنا فحسب، بل الموسيقى التى تغلف كل أشكال الحياة، ثم قالوا إن الله قد حرّم علينا أن نسمعها. ألا يرون أن الطبيعة برمتها تُغنِّى؟! فكل شىء فى هذا الكون يتحرّك بإيقاع: خفقات القلب، ورفرفة أجنحة الطير، هبوب الريح فى ليلة عاصفة وطرقات الحداد وهو يطرق الحديد، أو الأصوات التى تغلف الجنين داخل الرحم.. كل شىء يشارك فى انبعاثها بحماسة وتلقائية فى نغم واحد رائع، وما رقصة الدراويش إلا حلقة فى تلك السلسلة الدائمة، وكما يحمل ماء البحر فى داخله المحيط برمته، فإن رقصتنا تعكس أسرار الكون وتغلفها»!



آثرت أن أنتقى هذه الكلمات؛ فى بداية حديثى عن الموسيقار المصرى الراحل/عمار الشريعى، ربما لارتباطها بأشياءٍ عديدة فى حياة هذا الإنسان الذى خرج إلى الحياة كفيف البصر، ولم تسعده الحياة برؤية شموسها وأقمارها ونجومها المتلألئة فى السماء، ولكن لحفظه خمسة أجزاء من القرآن الكريم فى طفولته بكتَّاب القرية، والاستماع إلى الترانيم والتراتيل الكنسية فى كنائس مدينة» سمالوط «بمحافظة المنيا، شعر بالموسيقى الكونية تتوالد وتنساب داخل شرايينه بإيقاعاتها ونغماتها العذبة، وتلمَّس بفطرته ونور بصيرته أنها تترجم له كل مايجول فى خواطره من مشاعر وأحاسيس. 

 وكان عمار الشريعى على النقيض من الشاعر العربى رهين المحبسين »أبوالعلاء المعرى« الذى فقد بصره وهو فى الخامسة من العمر؛ نتيجة إصابته بمرض الجدرى، وبالتأكيد تركت تلك السنوات الخمس انطباعاتها عن الحياة وأشكالها وألوانها؛على شريط ذاكرته فى العقل الباطن، فمابالنا بالطفل الذى لم ير ولو للحظة واحدة ملمحًا واحدًا من ملامح الدنيا، وبالرغم من هذا تفجرت العبقرية الموسيقية بداخله، وأصبح من كبار الموسيقيين المصريين  فى القرن العشرين.

كان الشريعى نموذجًا رائعًا فى تحدى الإعاقة البصرية؛ ولكن الله منحه نعمة شفافية البصيرة منذ لمساته الأولى على آلة» البيانو «التى أهداها له والده وهو فى سن السادسة عشرة؛ ليتعرف على أسرارها ويتقن العزف عليها باقتدار لايطوله المبصرون، ويرحل الأب عن الدنيا تاركًا الصبى فى متاهات اليُتم وفقد البصر، ليتم إيداعه بالقسم الداخلى لمدرسة رعاية وتوجيه المكفوفين، وكانت تلك الفترة فرصة ذهبية منحها الله له؛ ليتفرغ بكل أحساسيسه ومشاعره لفهم أغوار آلات البيانو والأكورديون والعود؛ ثم أخيرًا آلة »

 الأورجالتى«راهن الجميع على أن من يتعامل مع هذه الآلة تحديدًا؛ أن يكون مبصرًا، لتعقيداتها التقنية البالغة.

وتشتد إرادة التحدى فى قلب هذا العاشق للموسيقى، فيتلقى علوم الموسيقى الشرقية على يد مجموعة من الأساتذة الكبار بمدرسته الثانوية فى إطار برنامج مكثف أعدته وزارة التربية والتعليم خصيصًا للطلبة المكفوفين الراغبين فى دراستها،  ليذهب إلى جامعة عين شمس، حاملاً تحت إبطيه جذوة الإرادة التى لم تخمد لحظة من لحظات عمره، ويحصل على ليسانس الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، وخلال فترة السنوات الجامعية؛ كان يدرس التأليف الموسيقى عن طريق المراسلة مع مدرسة» هادلى سكول« الأمريكية لتعليم المكفوفين، بالتزامن مع التحاقه بالأكاديمية البريطانية للموسيقى ! إنها إرادة التحدى القوية التى لاتقف أمامها جميع العوائق المادية والمعنوية فى قلب هذا الفارس المغوار.

ولم يضع وقتًا فى فرض إرادته بالخروج إلى الحياة العملية؛ فيتجه إلى التلحين والتأليف الموسيقى على الساحة المصرية والعربية، وكانت نقطة الانطلاق مدهشة، وكانه أراد أن يرد عمليًا على حاسديه على نبوغه وتفوقه المذهل فى علوم الموسيقى والألحان؛ ليقول لهم من خلال أول ألحانه للفنانة المصرية المتألقة ـ أنذاك ـ وصاحبة الصوت الذهبى »مها صبرى: «إمسكوا الخشب ياحبايب!

وتتمرد روحه الوثابة التى تتوق إلى الانطلاق والخروج من عباءة لحن الأغنية الضيقة؛ لينثر ألحانه على ساحة الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية والمسرحيات، ليحقق صاحب البصيرة شهرة واسعة على كل الأصعدة المصرية والعربية والعالمية، فينطلق عمار متقافزا برشاقة على السلم الموسيقى، ليرى بقلبه جماليات الطبيعة ويترجمها بكل المقامات اللحنية المتفردة التى جذبت آذان كل من استمع إليها خاصة براعته فى تجسيد أحداث المسلسلات التى وضع لها تترات  متميزة تكاد تنطق بأحداث كل مسلسل منها لتتجاوز أعماله التلفزيونية ١٥٠مسلسلا إلى جانب أعماله السينمائية فى ٥٠ فيلما، ووضع ألحان العديد من المسرحيات الغنائية الاستعراضية، ويمتلك أذن المستمع فى البرنامج الإذاعى الشهير «غواص فى بحر النغم»، و«سهرة شريعى» الذى اعتمد فيهما على التحليل الموسيقى للأعمال الغنائية التى تحظى بحب الجماهير.

ويمضى الشريعى قدما فى نجاحاته فوضع موسيقى تترات أنجح المسلسلات مثل «رأفت الهجان» التى تعيش إلى يومنا هذا فى أذهان الجماهير، و«الأيام» عن حياة عميد الأدب العربى د.طه حسين، وكان الفضل لنجاح «حديث الصباح والمساء» لموسيقاه الرائعة، وليحقق الطفرة الجميلة بلمساته فى تتر «زيزينيا»، وكذا الموسيقى التصويرية داخله، ويكون على موعد مع الإبداع غير المألوف فى موسيقاه لـ«الزينى بركات»، و«رحلة السيد أبوالعلا البشرى»، لتأتى النغمات لتجسيد كل المعانى الجمالية والأخلاقية التى يتحدث عنها هذا العمل. وكأنه يضع  بموسيقاه دستورا لكيفية نشر جماليات الألحان على العقول والآذان التى تسمع وتستمتع، وتتعلق الجماهير حول أجهزة التليفزيون فى المنازل والأماكن العامة، لتحظى بتشنيف آذانها بموسيقار «أرابيسك»،..وحدث الشىء نفسه مع «العائلة»، و«الشهد والدموع»، وهى الأعمال التى جذبت المشاهدين وحققت أعلى نسبة مشاهدة فى تاريخ التليفزيون المصرى والعربى، ناهيك عن تألق الفنانة عفاف راضى فى غناء لحنه «أوبرا عايدة» الذى يعد من روائع الدراما المصرية الحديثة، ولم تقف طموحاته وملكاته عند تقديم هذه الأعمال الخالدة، بل شارك بالغناء بصوته فى فيلم «البرىء» ومشاركته الغناء مع الفنانة فردوس عبدالحميد فى «عصفور النار» .

وليمنح الفرصة لقوافل الشباب العاشقة لهذا الفن الراقى، أسس فرقة «الأصدقاء»  وشاركهم الغناء علاوة على وضعه لألحان هى مزيجٍ من الأصالة والمعاصرة؛ والطموح إلى فرض الأغنية الجماعية فى المجالات الاجتماعية والرياضية بين الجماهير، امتدادًا للتراث الشعبى الفلاحى على ضفاف النيل فى ريف مصر. 

وقد تغنى كبار المطربين المصريين والعرب بألحانه منهم على سبيل المثال لا الحصر: شادية وعفاف راضى وأنغام وعلى الحجار وميادة الحناوى ووردة الجزائرية وعبدالله الرويشد.

وربما شعر هذا العملاق الذى تحدَّى الإعاقة منذ خروجه إلى الدنيا بعالم الطفولة؛ فقام بالاهتمام بأغانى الأطفال فى فعاليات أعياد الطفولة بمشاركة مجموعة من كبار الممثلين والمطرين وعلى رأسهم الفنانة صفاء أبو السعود، ويتصدى لوضع الموسيقا والألحان لاحتفاليات نصر أكتوبر التى تتولاها القوات المسلحة المصرية ووزارة الإعلام، بالإضافة إلى اكتشافه للمواهب الصاعدة من الأجيال الجديدة. 

ونظرًا لهذا النبوغ والتفوق؛ تم تعيينه أستاذًا غير متفرغ بأكاديمية الفنون المصرية؛ كما تناولت العديد من الرسائل العلمية أعماله بالدراسة والتحليل فى الكليات والمعاهد الموسيقية  المختلفة داخل مصر وخارجها.

 ولن يكون هذا حديثنا الأخير عن هذه الموهبة الفذة التى ينبغى أن يحتذى بها كل من أراد أن يثبت وجوده ويحقق نجاحا مرموقا متجاوزا لكل المحن والصعاب مؤمنا برسالة الفن الذى يستحق كل عناء، فمسيرته الفنية تنطوى على العديد من المحطات التى ينبغى الوقوف عليها لنضع أيدينا على مواطن نبوغه وعبقريته الموسيقية النادرة، رحم الله هذا الفنان العبقرى الذى يجب أن يحتذى به كل من أراد فرض شخصيته على المجتمع؛ بكل الإنتاج الغزير من الفنون التى تثرى المجتمع والتراث الإنسانى فهو قدوة ومثل يحتذى لمن هم على الدرب.