الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مازاتشيو الفلورنسى.. ملهم عصر النهضة

مازاتشيو الفلورنسى.. ملهم عصر النهضة

فى كل بستان يتفتح فى الربيع هناك زهرة تبادر بالتفتح أولا ثم تتبعها الزهور الأخرى فاتحة أكمامها تهللا بقدوم الربيع ونحن لا نفرط فى الاستعارة إذا قلنا أن هذه الزهرة كانت مدينة فلورنسا الإيطالية التى استقبلت عصر النهضة كربيع طال انتظاره بعد قرون من خريف طويل هو العصور الوسطى التى جعلت الفن هذا الذى يرمز له دائما بالشباب الأبدى جعلته يشيخ ويلبس بردة الرجل العجوز.



فنانا اليوم هو أحد زهور مدينة فلورنسا الفنية الجميلة والمتألقة وهو الفنان الكبير مازاتشيو وينتسب مازاتشيو لما يعرف بحقبة عصر النهضة الأول فيعتبر بذلك من أوائل ملهمى ذلك العصر مثله مثل دوناتلو وبرونلسكى والذين كانا أصدقائه كما يعتبر مازاتشيو من أول الفنانين الذين ثاروا على قواعد الفن البيزنطية والأطر الشرقية الجامدة وعاد بالفن إلى ما قد نطلق عليه «نعومة حوائط بومبى» حيث أننا أذا طالعنا جدارياته الشهيرة وأفريسكاته وجدناه يقترب من  القيم الكلاسيكية فى العصر الأمبراطورى الرومانى بالنسبة للتصوير والذى بدوره كان يستلهم فن التصوير الإغريقى بموضوعاته وأساليبه وفى هذا الإطار يقول بوزولينى الناقد الإيطالى الشهير (حينما كنت أقف أمام أعمال مازاتشيو الحائطية فى كاتدرائية سانتا ماريا دل كارمينى فى فلورنسا كنت أتعجب وأدهش وأتساءل أيضا كيف لهذا الفنان أن يخرج بهذه المقاييس والتقنيات الشديدة التطابق بجداريات رومانيه لم تكن قد اكتشفت بعد مع أن المفترض أن يكون حديث العهد بأساليب التصوير البيزنطى التعيسة.... هل هى روح الفنان التى زارت به أطلال بومبى قبل أن تكتشف؟ )

ونحن أيضا نرى فى كلام بوزولينى على الرغم من أن فيه افتتان بمازاتشيو لكننا نرى فيه حقيقة لا مراء فيها وهى أن عصر النهضة ولد على يد فنانين مثل مازاتشيو استلهموا جماليات الفن الرومانى والإغريقى حتى وان كانوا قريبى العهد بالبيزنطية التعيسة على حد تعبير بوزولينى.

ولد مازاتشى فى ديسمبر عام 1401 لأب يعمل بتدوين الحسابات بإحدى مستودعات فلورنسا للغلال ودرس فى عدة محارف لأن والده أراد له أن يكون فنانا ونحاتا شهيرا يعمل بتزيين الكنائس والقصور لكن المؤكد انه بعد دوره لم تطول أستقر فى محرف المهندس الكبير وصاحب التحفه الشهيرة «بوابة الجنة» المهندس برونلسكى ولعلنا نقع فى حيره حينما نرى أن المصور تلميذ المهندس لكن ليس هذا غريبا بتقييم عصر النهضة فلقد ظهر تأثير برونلسكى فى أعمال مازاتشيو حيث نجد تلك الاهتمام بالكتلة والحجم مع مراعاة التضاؤل النسبى أيضا نجد ذلك فى تصوير الكتل المعمارية فى لوحات مازاتشيو فهى تتفوق أحيانا على منظور النحت مثل الأبنية فى لوحة سان بيتر.

كان الاسم الحقيقى لمازاتشيو هو «تومازو» أى توم لكن أصدقائه الحقة به صفة المتهور فأصبح أسمه مازاتشيو أى توم المتهور وكان ذلك بسبب تقديسه وعشقه للفن فهو قد ينشغل فى إحدى أعماله الفنية فيهمل هيئته ولا يهتم بتناول الطعام فتصبح هيئته وحشيه ومزرية.

ولعل اختيار النقاد دائما لأعماله التى قام بها فى مصلى كاتدرائية سانتا ماريا دل كارمينى هو اختيار صائب لأنها كبداية له تعتبر تعبيرا عما كان يعتمل داخل نفوس الفنانين وعقولهم فى بداية عصر النهضه حيث تعتبر بعض أعماله فيها خطوات صارخة فى طريق التطوير فمثلا لوحة طرد آدم وحواء تعبر عن تطور لم يسبق له مثبل حيث قام بتصوير الشخوص بدن ملابس كما كانت تدفع بذلك تقاليد الفن البيزنطى وجنح إلى التجسيم فلم يصبح هنا الجسد الأنثوى مسطح كما اعتادت الفن الشرقى تصويره على مدار سبعة قرون وأكثر بل كان يعبر عن مقاييس أنثوية واقعية ولعل أهم ما يلفت النظر فى هذا العمل الرائع هو أظهار مازاتشيو لخبرته وأتقانه لتقنيات الكيارسكورو أى تقنية توزيع الضوء والظلال ولعل نجاحه فى توزيع الضوء والظلال جعل منها اكثر صدقا من الناحية الدرامية.

وبذكر المسألة الدرامية والتكنيك السردى لمازاتشيو علينا أن نقول إن مازاتشيو كان رائعا فى تلك الناحية حيث كان له منهجه السردى الخاص من الناحية البصرية واهم ما يميز هذا المنهج هى الترتيبية التى عالج بها موضوعات لوحاته حيث نستطيع ان نقوم بعد مشاهد ترتيبيه تجمعها حكاية واحده فى معظم لوحات مازاتشيو وأشهرها على الإطلاق لوحة (دفع العشور) فى مصلى برانكاتشى فى كاتدرائية سانتا ماريا دل كارمينى  وتصور اللوحه حدوته من العهد الجديد حيث يأمر السيد المسيح تلاميذه بدفع ضريبة العشور الرومانية للعشار الرومانى كان بطرس أحد تلاميذه فقيرا ولا يملك الجزية فيأمره المسيح بان يذهب للشاطئ ويصطاد سمكه وسوف يكون بها ضريبته وفعلا يجد بطرس فى السمكة دينارا ذهبيا فيدفع جزيته ونجد فى اقصى يسار اللوحة بطرس يبقر بطن السمكه ويخرج الدينار وفى منتصف اللوحه يسوع  الناصرى مجتمع بتلاميذه وفى أقصى اليمين بطرس يدفع الجزية للعشار وهذا هو الترتيب المنطقى لحكايه حتى وان أردت ان تبدأ من المنتصف حتى يكون الناصرى هو مركز اللوحة.

ولعل ما يميز هذه اللوحة أيضا تلك اللفتة التى أستخدمها مازاتشيو حيث يكون وجه بطرس هو نفسه وجه تاجر الحرير الفلورنسى ليفتشى برانكاتشى الذى وهب هذا المصلى للكنيسة وتكفل بتكاليفه.

ويبدو أن مازاتشيو كان مغرما بتقنية السرد هذه فى معظم أعماله حيث ينطبق ذلك على لوحاته الجدارية التى تصور حياة القديس بيتر على هذا النحو السردى أيضا.

ونختتم كلامنا عن مازاتشيو بمقوله شهيرة لداندالو ريمو أشهر مرمم للوحات عصر النهضة حيث يقول «مازاتشيو فنان فلورنسى عميق ومتألق فيجب فقد تقف ساعات مشدوها أمام تلك التجربة الفنية الرائعة التى جعلت من حوائط فلورنسا دفاتر خيالية لحواديت وأناس خلت وذهبت لكن مازاتتشيو يستحضرها ويجعلها تحكى قصصها وعبرتها أمامك دون أن تنزل من على الحوائط».