الجمعة 26 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«قَالَ أمُّكْ».. رحمها الله

«قَالَ أمُّكْ».. رحمها الله

صدق رسول الله « صلى الله عليه وسلم» فى الحديث الذى رواه أبوهريرة  «رضى الله عنه» قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله «صلى الله عليه وسلم « فقال: يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي؟  قَالَ: «أُمُّك» قَالَ: ثُمَّ منْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبُوكَ»  «متفق عليه».



وجاء فى شرح هذا الحديث الشريف؛ أنه كان تعبيرًا عن القناعة التى تجسّدت فى قلب أحد الصحابة الكرام « رضوان الله عليهم « الذين كانوا يعيشون مع النبي «صلى الله عليه وسلم» فى المدينة، ومن منطلق هذه القناعة قام بتكوين علاقات شخصيّة وروابط أخويّة مع الكثير ممن كانوا حوله، على تفاوتٍ بين تلك الصلاة قوّةً وتماسكاً وعمقاً.

وإذا كان الناس يختلفون فى صفاتهم وطباعهم، وأخلاقهم وشمائلهم، وأقوالهم وأفعالهم، فمن هو الذى يستحقّ منهم أوثق الصلات، وأمتن العُرَى، وأقوى الوشائج، ليُطهّر المشاعر، ويسمو بالإحساس؟

هذا هو السؤال الكبير الذى ظلّ يطرق ذهن الصحابى الكريم بإلحاح دون أن يهدأ، وسؤال بمثل هذا الحجم لا جواب له إلا عند من أدّبه ربّه وعلّمه، وأوحى إليه وفهّمه، حتى صار أدرى من مشى على الأرض بأحوال الخلق ومعادن الناس.

وهنا أقبل يحثّ الخطى نحو الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ليسأله عمّا يدور فى ذهنه من تساؤلات، فوجده واقفاً بين كوكبة من أصحابه، فمضى إليه ثم وقف أمامه وقال : « يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟».

خرجت الكلمات من فم الصحابى الكريم وهو يُمعن النظر فى وجه النبي-صلى الله عليه وسلم- ينتظر جوابه، وكلّ ظنّه أن الإجابة ستكون بياناً لصفاتٍ معيّنة إذا اجتمعت فى شخصٍ ما كانت دليلاً على خيريّته وأحقّيته بالصحبة، أوربّما كان فيها تحديداً لأسماء أفرادٍ ممن اشتهروا بدماثة الخلق ورجاحة العقل.

لكن الجواب الذى جاء به النبى -صلى الله عليه وسلم- لم يكن على النحو المتوقّع، فلقد قال عليه الصلاة والسلام : (أمّك) ، نعم! هى أحقّ الناس بالصحبة والمودّة، ويستزيد الصحابى النبى عليه الصلاة والسلام ليسأله عن صاحب المرتبة الثانية، فيعود له الجواب كالمرّة الأولى : (أمّك) ، وبعد الثالثة يشير -عليه الصلاة والسلام- إلى الأب، ثم الأقرب فالأقرب ، وأولى الناس بالبرّ -كما هو مقتضى الحديث- الوالدان، لما لهما من نعمة الإيلاد والتربية، ولذلك قرن الله حقّه بحقّهما، وشكره بشكرهما، قال الله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} (الإسراء:23)، وقال تعالى: {أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير} (لقمان:14).

وكرَّم الإنجيلُ الأمَّ فى كثير من المواضع، حيث جاء ذكرها قبل الأب، كما شدَّد على حب واحترام الأبناء لأمهاتهم، ولعل مولد المسيح «عليه السلام» سما بمقام الأمومة إلى أرفع مكان، وجعله قبلة الأنظار، فكانت السيدة مريم العذراء أُمًّا مكرمة فى الأرض وفى السماء ، وجاء إكرام الوالدين مترادفين فى الشريعة المسيحية ،ومنها ماورد فى سفر التثنية ( 5 – 16 ) :»أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ، وَلِكَيْ يَكُونَ لَكَ خَيْرٌ علَى الأَرْضِ الَّتِى يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ» . ومما قاله بولس الرسول لأهل افسس (6 – 2 ) :» «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، الَّتِى هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ» .  فإذا فارقت الأم دنيانا الفانية.. وانتقلت إلى رحمة الله راضية مرضية بإذن الله تعالى.. فقد شاع قول مرسل لا سند له وهو: «يا ابن آدم، ماتت التى كنا نكرمك من أجلها، فاعمل صالحاً نكرمك من أجله !!» .. وهذا القول – فى رأيى - لا يصِحّ معنىً ولا مبنى..لا روايةً ولا دراية، فإنما يُكرم الإنسان بأعماله وطاعاته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : ( مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ).. «رواه مسلم».( والله أعلم ).

وثمة قول أرشدنى إليه أحد الصالحين – دون سند كذلك - بأن « دعاء الوالدين كنزٌ لا يُفتح إلا بعد موتهما» .. أجد فيه راحة نفسية لأن الدعاء كنزٌ لا يفنى ولا يبلى ..وهو استصحاب لأصل الصلاح والطاعة والعبادة .. مثل دعاء أمهاتنا المعتاد « روح يا ابنى .. ربنا يحبب فيك خلقه « .. ومثل تلك الدعوات المشجعة.   

واختتم بمرثية الشاعر الدكتور أبوبكر الصديق على قبر والدته (رحمها الله ) التى افتتح بها ديوانه الأخير :

أمى أفيقى فإنى كسيرٌ .. وتسقط نفسى ببئر الحداد

فأنسى نهارى وأذكر ليلى .. ويهطل دمعى بلون المداد

وأشهد وجهك بين النجوم .. بقلب السماء وفوق البلاد

وبالقانون تحيا مصر