الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«الإخوة لانين» مصورو الحياة الواقعية

«الإخوة لانين» مصورو الحياة الواقعية

ربما كانت المرحلة الثانية لعصر النهضة تعبر بصدق عن التحول الجيوسياسى والسيسيولوجى للمجتمع الأوروبى ولعل أى قراءة متأنية للفنون فى هذه الحقبة التى تماثل اللؤلؤ المصقول والذى اشتقت منه تسميتها (الباروك) أى قراءة لفنون الباروك قد تؤدى بنا إلى محصلة واحدة وهى تلك الطفرة الفكرية والسياسية والاجتماعية لهذا العصر ويعتبر الفن التشكيلى من أهم المرايا التى عكست هذا الشعور بعجلة التقدم تدهم كل ما هو متأخر ومتصلب وملتصق بالعصور الوسطى وأن كان الباروك فى إيطاليا قد خطا خطوة كبيرة مبتعدا عن بعض قيم الرينيسانس الرومانسية إلا أنه فى فرنسا خطا خطوات أكبر فى اتجاه ما عرف بقراءة الدراما الاجتماعية من خلال مذهب لونى وتكتيكى من المفترض أنه أدى لانبثاق المدرسة الرومانسية الفرنسية فيما بعد وإذا حاولنا الاقتراب من هذه الفكرة علينا مقارنتها بإخراج المشهد المسرحى تماما بحيث استخدم مصورو الباروك الفرنسيون نفس تقنية الإخراج المسرحى من حيث وضع (ميزانسية) أى اتجاه حركى لأبطال المشهد التصويرى فبدت معظم أعمالهم وكأنها مستلهمة من مشاهد حياتية شديدة الواقعية أو بالأحرى لقطات لما يعرف بـ(يوميات الشارع) فى القرن الـ16 وهذا بالتحديد ما أردنا أن نلج إليه.



وإذا أردنا أن ننتخب مثالا نعبر به عن الباروك الفرنسى به فلن نجد خيرا من الإخوة لانين الذين يمثلون بحق نموذجا مكتملا وناضجا للفكر التشكيلى الفرنسى فى هذه الحقبة وعلى الرغم من أن الإخوة لانين يمكن أن نطلق عليهم (محرف الباروك الفرنسى) إلا أننا نجد أنهم قد تعرضوا لفترات طويلة من الغبن والتجاهل من النقاد المعاصرين وخاصة المتخصصين العرب ولعل من يدخل اللوفر بكل ما يحمله من أصالة وعراقة وتنوع يتساءل حينما يدخل تلك الصالة الرحبة التى تضم أعمالهم (من هو انتونيو لانين) أو (لويس لانين)، وبالرغم من أن اللوفر يقتنى العديد من أشهر أعمال الإخوة لانين إلا أنهم كما قلنا نصيبهم من الشهرة فى العصر الحديث قليل.

يقول الناقد برناردو لونتانى (الإخوة لانين من أهم التشكيليين فى الفن الفرنسى حتى الآن لأنهم ببساطة عالجوا موضوعات كانت بعيدة تماما عن التناول من فنانى القرن السابع عشر فالإخوة لانين وضعوا الخجل جانبا وصورا آلاما حقيقية داخل وجوه الفلاحين والعائلات البسيطة والتدنى الطبقى الذى بدأ ينتشر ليس فى فرنسا وحدها بل فى معظم أرجاء أوروبا).

وما يقوله لونتانى هو نفسه ما يجعلنا نؤكد أن اعمال الإخوة لانين بشرت بالثورة الفرنسية قبل قرن ونيف من اندلاعها وكانت نبراسا لفنانين واقعيين ورومانسيين مثل بوسان ودى لاكوروا.

ولد الإخوة لانين فى ليون بفرنسا وهم (أنتونيو لانين 1599 – 1648) و(لويس لانين 1593 – 1648) و(ماثيو لانين 1607 – 1677) وربما هناك تضارب كبير فى فى مسألة تأريخ مواليد الإخوة لانين بحيث يصبح تاريخ ميلاد لويس محل شك دائما وهناك قناعة كبيرة أنه ولد فى 1584 وعلى الرغم من أن هذه القضية قد شغلت العديد من كتاب السير الذاتية إلا أنها قد تصبح غير ذات تأثير من حيث تأثيرها فى أسلوب الإخوة لانين.

وهناك بحث كتبه أدمون لارونتين الباحث الفرنسى بجامعة ليون ليثبت فيه أن هنريتا إحدى حبيبات جاكومو كازانوفا الشهير هى لويزا لانين ابنة لويس لانين وبالرغم من طرافة موضوع المقال إلا أنه لا يعدو أن يكون طرفة شائقة تتناول علاقة الحب الحقيقى فى حياة كازانوفا.

عاش الإخوة لانين فى باريس وماتوا فيها وكانت شهرتهم تطبق الآفاق فى عصرهم وليس من السهل تمييز عمل كل أخ على حدة لأنهم فى الغالب كانوا يوقعون أعمالهم باسم العائلة (لانين) كما يصعب أحيانا التفرقة بين أعمال بعضهم من خلال الأسلوب أو تناول الموضوعات لكننا نستطيع ان نقول ان لويس لانين كان الأكثر شهرة بين الإخوان الثلاثة حيث تميز بتناوله الدائم لموضوعات تضم طبقة الفلاحين كما تعالج كل موضوعاته عمقا شعوريا ونفسيا يلاحظ من تكنيك تصوير الوجه والملابس بحيث ابتعد بشكل قطعى عن تصوير أى جانب هزلى أو سخيف فى لوحاته لكن على الرغم من ذلك لم يصور لويس لانين الفلاحين من الطبقة المتدنية فقط بل صور أيضا فى أعماله الفلاحين من الطبقة البرجوازية الميسورة وهذا قد يضع نصب أعيننا أن الإخوة لانين كانت لديهم نزعة التوازن فى موضوعاتهم ولم يتماحكوا كلية فى مسألة أنهم مصورو الطبقة الكادحة فقط وهذا ما يعطى توازنا فى موضوعات الإخوة لانين.

وعلى الرغم من تشابه بل وتطابق أعمال الإخوة الثلاثة إلا أننا قد نجد احيانا عناصر تميز عمل كل أخ عن الآخر بحيث يظل دائما أنتونيو مغرما بتصوير المنمنمات أى اللوحات ذات التفاصيل الكثيرة والتى يمثل فيها الزحام عنصرا فى تصوير الفكرة التشكيلية كما أنتج ماثيو معظم البورتريهات التى تنسب إلى الإخوة لانين وبرع فيها مما أدى لحصوله على ألقاب رسمية كبيرة منها لقب (الرسام الرسمى لباريس) كما حصل على لقب فارس (شيفاليه) عام 1633.

يعتبر أسلوب الإخوة لانين أسلوبا يميز حقبة الباروك المتأخرة والوسطى حيث استخدام مصدر الضوء الخافت فى إنارة اللوحة بحيث يجعلنا نشعر أن الشموع المضاءة من أسفل هى مصدر إضاءة الموضوع التشكيلى مما يضيف عمقا دراميا للمشهد، وهذا يجعلنا نستحضر لذهننا مواطنهم الفنان الكبير جورج ديلاتور الذى اعتمد على الشمعة الواحدة كمصدر لإنارة لوحاته ليعطى درجات لونية أكثر خفوتا على أطراف المشهد التشكيلى حتى يشى بجدية ومأساوية وحكمة فى بعض الأحيان لكن يظل أسلوب لانين أكثر واقعية من دى لاتور ليكون مصدر الضوء أكبر وأكثر امتدادا وعلى الرغم من اقترابهم من بعض العتامة كما فى لوحات بعينها مثل (الحداد فى ورشته) و(الأطفال المشردين) إلا أنهم يظلون أكثر بعدا عن ظلامية رامبرانت الذى أعاد استخدام تكنيك توزيع الإضاءة وابتدع مذهب الظلامية.

وفى النهاية علينا أن نذكر أن الإخوة لانين عانوا تجاهلا سريعا بعد موتهم ودفنت لوحاتهم فى بطون مخازن القصور معارض اللوحات فى باريس حتى أتى الفنان الكبير جوستاف كوربيه وأعاد جمع لوحات الإخوة لانين من مصادر عديدة بل وأعاد اكتشافهم بالنسبة لمتذوقى العصر الحديث وهو الذى زين حوائط اللوفر العريق بالإخوة لانين والذى تضم ساحة الكامبيوفلورى (ساحة الزهور) فى اللوفر جزءا عظيما من تاريخ الباروك الفرنسى وهم الإخوة لانين.