الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
"بيترو بيمبو".. ناقد الشعر الموسيقى

"بيترو بيمبو".. ناقد الشعر الموسيقى

(هنا فقط حينما تسير فى أزقة فينيسيا التى تحفها المياه ويسطع فوقها نور البهجة..هنا فقط تشعر بالحرية ودقات المساخر والأعياد تؤجج قلبك بلظى خفى يقودك لمحرقة الحب.. هنا فقط تستطيع أن تتحرر من سلطة البابا وازدواجية كهنة المعبد وكل الأحاجى وتترك نفسك للغناء فقط.. فقط للغناء.. أمرح وعب من مُدام الهوى ولاتنسى أن الرب ذاته يحب المبتهجين والأفراح السماوية... تقدس هذا الأرخبيل الأزرق وصب فى عروقنا الحب بلا حساب).. لعل القارئ المتأنى لهذه السطور وخصوصا ان كان على دراية عميقة بتاريخ الفكر والأدب فى عصر النهضة لا يستطيع أن يحدث نفسه بأن هذه السطور هى لكاردينال وسكرتير للبابا وعضو لمجلس العشرة الكنسى ومرسم بالقلنسوة الحمراء الفاتيكانية.. كل هذا يصبح لافتا حينما نعرف أن كاتب هذه السطور هو الأديب ورجل فينيسيا بل وإيطاليا الأشهر فى القرن الخامس والسادس عشر "بيترو بيمبو" والتى قررت أخيرا مكتبات فيرارا وفينيسيا بالإفراج عن بعض رسائلة ومؤلفاته من ما يعرف بالقائمة المخفية وهى مجموعة ضخمة من الوثائق والمخطوطات تخص شخصيات عامة سياسية ودينية وهذه الوثائق يحظر الاطلاع عليها إلا من قبل الهيئات العليا لأنها تحتوى على مواد قد تعارض تاريخ هؤلاء الدينى والسياسى وقد تحتوى على نقد شديد لبعض الشخصيات الدينية مثل الكرادلة والباباوات ومن ثم تصبح وثائق شديدة الخطورة سواء للدارسين والمثقفين بل ورجال الدين أيضا، لذا قرر شخصية مجهولة من قادة الهوسبتالين – فرسان المعبد – بالتحفظ على هذه الوثائق من عصر لعصر فيما يعرف بالقائمة المخفية، لكن بالطبع طبيعة العصر الذى نعيش فيه قد جعل من بعض هذه الوثائق لا قيمة لحظرها بل والأجدى أن تخرج للنور ليتمتع بدراستها الدارسون والقراء.



هذا ما حدث بالفعل الشهرين الماضيين حيث أفرجت مكتبات فيرارا وفينيسيا الوثائقية عن الكثير من وثائق تخص الناقد والمحلل والمؤرخ الكبير بيترو بيبمو من بينها مجموعة رسائل لنساء مجهولات وبعضها أكد الدارسون أنها تخص عشيقته الشهيرة والتى يعج بسيرتها التاريخ الإيطالى وهى لوكريتسيا بورجيا والتى رغم سمعتها السيئة فقد ألهمت بيمبو الكثير والكثير من أعماله بل وحتى أنه لم يتحرج حينما صار شيخا طاعنا فى السن وفى منزلة دينية وإدارية كبيرة أن يهدى إليها حفنة من أعمالة وبينها أهم أعمالة قاطبة وهى – Gli Asolani  - أو المحاورات والتى تعتبر العمل التى أظهر الوجه الحقيقى لبيترو بيمبو كرجل متفتح رقيق القلب من رجال عصر النهضة وكما يبدو من اسمها أنه تأثر فيها كثيرا بأفلاطون أو دعنا نقول أنه كتبها على غرار محاورات أفلاطون.

تحتوى بعض الرسائل التى كتبها بيمبو على الكثير من أفكار كان من الممكن أن تدمر مستقبله الوظيفى والاجتماعى إذا عبر عنها صراحة وخصوصا أن بيمبو كما أسلفنا وصل لمرتبة كنسية ووظيفية بل وكرجل فكر هى من أعلى المراتب التى لم يصل إليه سابقوه مهما كانت درجة شهرتهم مثل بوكاتشيو وبتراركا الذى يعتبر ملهم بيترو بيمبو.. ولنوضح للقاريء مدى خطورة ما كتبه بيمبو فى هذه الرسائل يجب علينا ان نعرف أن بيمبو كان عضوا بارزا فى جماعة فرسان المعبد – الهوسبتاليين – وهى من أوائل الجماعات الدينية المتطرفة فى تاريخ أوروبا حيث تدين هذه الجماعة بعقيدة سرية تقوم على فكرة حماية العقيدة المسيحية بالسيف والترويع، ومحاكم التفتيش التى سمعنا أنها قتلت وأرهبت الأبرياء من كل دين منذ العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشر لم تكن إلا أحد تجليات جماعة فرسان المعبد، وهكذا كان كاتبنا عضوا فيها ولكن بالطبع ما ثبت كثيرا فى أعماله وفى شهادات المعاصرين له أنه ربما انضم لهذه الجماعة بحثا عن موقع مرموق فهو كان ابنا لسفير ودبلوماسي شهير ومن ثم كان يطمح أن يصبح مثل والدة فانضم لفرسان المعبد ليضمن لنفسه امتيازات كثيرة تعينه على تحقيق طموحة.

 ويظل هنا التساؤل قائما إلى أى حد ساعد فرسان المعبد بيترو بيمبو لما وصل إليه وظيفيا ؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعرف بوظائف بيترو بيمبو والمستوى الرفيع الذى وصل له فى روما وفينيسيا بل وفى إيطاليا قاطبة وكانت البداية حينما صحب الوجيه الفلورنسى الشهير جوليو ميديتشى إلى روما عام 1513 ثم بشكل مفاجيء عين سكرتيرا للغة اللاتينية للبابا ليو العاشر وفور حصولة على هذا المنصب الرفيع وهو لم يتعدى بعد منتصف الأربعين أنضم للهوسبتالين وكأن هذه كانت صفقة لأنضمامة لهم وظل فى معيتهم حتى فى بعد أن تقاعد البابا، وفى عام 1530 تقلد منصبا من أرفع مناصب وطنة فينيسيا فأصب المؤرخ الرسمى لدوقية فينسيا ولكن كتاب سيرته الذاتية الذين يضعون أتمام عملة الضخم – تاريخ فينسيا – قبل هذه التاريخ يؤكدون أن حصوله على هذا المنصب كان طبيعيا بعد أنجازة هذا العمل الموسوعى، ثم قفز بعد بضعة أشهر ليصبح أمينا لمكتبة سان مارك فى فينيسيا وهو أرفع منصب يتقلده مثقف أو متعلم فينيسى، ثم يختاره البابا بول الثالث كردينالا ثم كاهنا مرسما ثم عضو فى مجلس العشرة الكنسى الذى يمثل صناع القرار فى روما البابوية بل وفى إيطاليا نفسها ومن ثم علينا أن نطرح سؤالا هاما وهو : أى رجل هذا الذى تعلم تعليما علمانيا وعاش حياة علمانية ليتقلد كل هذه الوظائف الكهنوتية والدينية الخطيرة حتى يلبس القلنسوة الحمراء الفاتيكانية ؟؟ وهنا يكون حل اللغز هو عضويته النشطة كمثقف وشخصية شهيرة فى جماعة الهوسبتالين الذين كانو يمثلون لوبى للضغط فى كل أنحاء إيطاليا بل وفى كل أنحاء أوروبا كلها وهذا ما عبر عنه بيترو بيمبو فى رسائلة ضمنا أن الهوسبتالين كانوا كمثل العهد مع الشيطان وهبوه الدنيا فوهبهم روحة لتهوى فى جحيم الكره الذى بثوه فى كل مكان لكن بيترو وجد الحرية من هذا الشعور فى كتاباته  حتى أنه يخالف مذهبهم تماما فى جزء من عملة المحاورات ويجعل من الحب أهم صفة إنسانية بل ويعلن أنه أقل تزمتا تجاه الغنوص والتصوف الذى حاربه الهوسبتالين حربا شعواء مع أنهم هم ذاتهم طائفة متطرفة أساسها الغنوص والعنصرية.

يعتبر بيترو بيمبو أهم ناقد عرفه عصر النهضة للشعر وعلى حد التخصيص فأنه أهم ناقد للنصوص المكتوبة باللاتينية العامية – الفولجاريس – وأهم محلل صوتى لشعر اللاتينية العامية متمثلا فى بيتراركا والذى كان الشخصية المحورية التى دارت حولها العديد من موضعات بيترو بيمبو النقدية، والذى دفعه لذلك محركين أولهما حبه الشديد لبتراركا وشعره وبساطته وثانيهما دراسته للموسيقى وعشقه لتلحين الشعر ومن ثم خرج علينا بأهم تحليل صوتي لموسيقى الشعر فى عصر النهضة.

كان لبيترو بيمبو أيضا صولات وحواديت فى عالم العشق والمغامرات العاطفية مثله مثل مواطنية الفينيسين أمثال جياكومو كازانوفا، وتكشف الوثائق الجديدة عن نساء كثيرات فى حياة بيمبو الكاردينال المتوج على قلوب المتعلمين والنساء على حد سواء.