الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
روديلف نورييف .. روميو الباليه فى القرن العشرين نورييف أحد معجزات الرقص فى القرن العشرين

روديلف نورييف .. روميو الباليه فى القرن العشرين نورييف أحد معجزات الرقص فى القرن العشرين

منذ عامين تحديدا كنت فى وداع صديقنا العزيز يفجينى دازوفيتش أحد أمناء مكتبة فورنى العامة... ولأنه من أصول روسية كانت مراسم الدفن سوف تقام فى مقابر الأرثوذكس الروس (سانت جينفيف دى بوي) ودخلت لحضور مراسم الدفن وهوبالطبع كما يعرف الجميع طقس ثقيل على روحى.. وبعد انتهاء الطقوس تجولت بين الشواهد حتى أصل للمدخل مرة أخرى، وعلى الرغم من أنها مقابر فقيرة إلى حد ما إذا ما قورنت بمقبرة المونبرناس أومقابر بيير لاشيز الأكثر شهرة وتألقا إلا أن هناك قبرا له شكل غريب جذبنى بشدة .. فيممت إليه لأمارس هوايتى فى التعرف على الراحلين فوق بدن الغياب... هذه المسطبة البارزة لأعلى بحجم تابوت بشرى مغطاه بنحت ملون لسجادة شرقية على الطراز الروسى الشهير.. تحتفظ بألوانها الزاهية وكأنها ألوان سجادة حقيقية... اقتربت من القبر لأتفحص دقائق التشكيل فيه فإذا بى أقرأ هذا الاسم.... روديلف نورييف وأكد ذهنى الاسم حينما قرأت كلمة راقص على الشاهدة .. وفى سرعة خاطفة كتلك التى تخيلها كتاب الأدب العلمى لآلة الزمن ... سافر بى الاسم لأعوام فى أوئل الثمانينيات حينما كنت أجلس فى شغف لأنتظر برنامج فن الباليه للجميلة منى جبر.. لأشاهد باليهات ماتروشكا وروميووجولييت وبحيرة البجع وجيزيل وغيرها من الباليهات الشهيرة البراقة... يالها من حقبة أكثر من ذهبية.. كان فيها الإعلام يحترم عقولنا ويغذى أرواحنا.. وتذكرت جيدا حينما كنت أتحرق على جمر الانتظار لأن منى جبر مقدمة البرنامج كانت قد نوهت فى الأسبوع الماضى أنها سوف تذيع باليه روميووجولييت نسخة نجمة نجوم الباليه البريطانية فى القرن العشرين مارجوفونتين وكان أبى بالطبع رحمه الله ينتظر بجانبى ولما بدأت الحلقة قدمت منى جبر ورديلف نورييف على أنه راقص روسى وبغض النظر عن أنه ليس راقصا بل سيد هذا الفن فى القرن العشرين بل وربما فى قرون سوف تتلوه أيضًا صحح لى والدى المعلومة وقال لى إنه ليس روسيًا بل هو تترى أى ترجع أصوله لهؤلاء التتار الذين نعرفهم من تاريخنا الإسلامى والعربى ووضح لى أن التتر ليسوا روسيا بل هم تحت حكم روسيا ودلل لى على ذلك بأن الغالبية العظمى منهم لا تجيد اللغة الروسية بل يتحدثون لغته القومية – التترية – وكانت ليلة حافلة تابعت فيها معجزتين يتحركان سويا فوق خشبة المسرح عصفورين حالمين أنفلتا من قفص الأيديولوجيات والصراعات والآلام وكل هذا الزخم من احتراقات العالم .. انفلتا سويًا يرسمان الخلود فى دورات متتابعة يتناوبان على اختطاف قلوبنا واستدرار دموعنا مرارا وتكرارا.. وكأنهما يحتالان على القلوب فى خفة ورشاقة... نورييف التترى المنشق على قلعة البلشفية العتيدة .. والسابح فى فضاءات مسارح الفن فى أوروبا بين هوس الجماهير به وتمسح النجوم فيه حتى يحظوا ببعض من شهرته.. يلعب دور روميو بحرفية  أكثر من روميوالشكسبيرى ذاته متوهج برشاقة غير عادية بالرغم من أنه يحمل فى صدره قلبًا مثقلا بالخوف وافتقاد الأسرة حيث رفضت السلطات الروسية فى الاتحاد السوفياتى القديم إعطاءة تصريح دخول لزيارة والدته والتى تركها حينما كان فى العشرينيات من عمره كما رفضت السلطات أيضا السماح لوالدته بالسفر أو أى من أفراد أسرته .. نورييف المتحود مع هذه الهموم بالإضافة لصدامه مع ذاته كون شيطان الفن ملأه برغبات أكبر من احتمال البشر... أما مارجوفونتين تلك النجمة التى غافلت سماوات الكون وتسللت عنوة لكوكب الأرض حتى تصبح معشوقة الجماهير فى العالم والتى أيضا تتقمص جولييت بأكثر من قسوة جولييت وآلامها وخيبات أملها... حتى أن جولييت شكسبير نفسها تشفق عليها... مارجو.. الجميلة والجريحة تحمل أيضا فى جسدها النحيل ألما لايقل عن ما فى صدر نورييف.. فتلك النجمة التى يتمناها نصف سكان العالم تعانى ذلك التهور من زوج مهمل داوم على خيانتها .. وتواجه سلطة الزمن الذى يطأ جسدها السهمى اللين فيضع علاماته على وجهها .. فترتبك بمشاعر غامضة بين يد نورييف الذى يصغرها سناً ولا تفصح حتى بينها وبين نفسها أنها تحبه بكل المعانى بعد أن قاسمته نجوميتها ذلك الفتى التترى الهارب من قمع خوروشوف ومكتب المخابرات الروسية الذى أتاها فقيرا مغمورا إلى حد ما فكفل له اسمها شهرة تعدت شهرة القياصرة.. فى القرن العشرين كان فن الرقص عامة والباليه خاصة يمر بمنعطف خطير كاد يندثر بين مطرقة الرفض الروسية باعتباره فنا يذكرهم بالقياصرة وثقافة الصفوة وبين سندان ميلاد جديد لنوع من الرقص يشق طريقه من حانات سان جيرمان فى باريس ومشارب البلوز والجاز فى أمريكا ومن منطلق المحاولة الأخيرة لتفعيل منهج الرقص للجميع مع إطلاق العنان للتعبيرية فى الرقص.. الرقص الحديث الذى هدد فى بعض الأحيان فن الباليه بحيث أراد أن يسقط عنه الميزانسية والتخطيط المسبق والتوازن الكلاسيكى لأطراف الجسد مع حركاته مع وجود السيطرة الجيوميترية بشكل شبه كامل على الأداء ... لكننا علينا أن نعترف أن هناك فترات تصالح فيها الباليه مع الرقص الحديث لسببين.. أولهما أن معظم رواد الرقص الحديث كانوا فى الأساس من رواد الباليه الكلاسيكى وثانيهما أن المسارح اعتبرت فى بعض الأحيان أن عروض الرقص الحديث ما هى إلا رؤية طليعية لعروض الرقص القديم ، لكننا أيضا حتى وان كنا نرى أحيانا بعض المبالغات فى مدارس الرقص الحديث إلا أننا نعترف أن الرقص الحديث اختطف العديد من عباقرة الرقص الكلاسيكى ومنهم رودولف نورييف نفسه الذى صال وجال فى عالم الرقص الحديث أثناء وجوده فى أمريكا ولم يعده إلى محراب الرقص الكلاسيكى إلا تعيينه مديرا ومخرجا لفرقة الباليه بأوبرا باريس.. وهذا منصب نكاد نقسم أنه يعادل منصب الكرسى الباباوى فى روما بالنسبة للفن بالطبع... روديلف نورييف هذا الفتى التترى الفقير والذى كان يتردى معطف أخته ليذهب به إلى المدرسة لأنه لايملك معطفا فى برد روسيا القارص