الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
أطفالنا .. وشجرة الوطنية!

أطفالنا .. وشجرة الوطنية!

ليس من المستغرب أن يهتم علماء الاجتماع بما يسمى «أدبيات التربية»، والتركيز على أهميتها فى عالمنا المعاصر، فالأوطان تُبنى بالأفراد الذين يؤمنون بالانتساب الحقيقى للوطن بالقلب والروح والوجدان، والاعتزاز والإيمان بهذا الانتساب من كل المناحى الإنسانية: الدينية والفكرية والوجدانية؛ والمعرفة الحقَّة بقيمة وقدسية تراب الوطن الذين يفخرون بأنهم ينتمون إليه.



ولكن كيف يتم غرس هذه المفاهيم الرائعة فى تربة الأجيال الجديدة، وأطفالنا فى المدارس؛ لايقومون بتحية «العَلَمْ» فى طوابير الصباح  قبل مداهمة جائحة كوروناـ إذا كان هناك طوابير من الأساس ـ، ولم يرددوا مع التحية أغانى الزمن الجميل «حُب الوطن فرض عليَّا.. أفديه بروحى وعينيَّا»، أو «نسر مصر ارتفع.. فوق جيش الوطن»، أو «والله زمان ياسلاحى»! حتى لو افترضنا جدلاً أن تحية الصباح حين كانت تقام، فهى تتم فى عجالة؛ من أجل الوقت المضغوط؛ وانكماش «الحصة» إلى ربع الساعة، والاستيلاء على المساحة الخضراء ـ إن وجدت ـ لبناء خنادق تسمى بالفصول، يتم «رص» الأطفال داخلها مثل «علب السردين»! ولا تستهينوا بمثل هذه الكلمات البسيطة؛ ومدى تأثيرها فى وجدان الطفل لتعزيز وترسيخ بذورهذا الانتماء بداخله. ناهيك عن ارتباط الطفل بالزى العسكرى؛ حيث كانت «بدلة الضابط» هى الانتقاء الغالب على ملابس الأطفال فى الأعياد، وكان الرد الفورى للسؤال الموجه إلى الطفل عن العمل الذى يريده مستقبلاً، فتكون الإجابة بكل الاعتزاز: «عاوز أبقى ظابط علشان أقبض على المجرمين وأعداء البلد»، والمجلات القديمة تمدنا بصور أبناء الفنانين أمثال اسماعيل يس وولده ياسين بالزى العسكرى، وهو يحمل صورة رئيس الجمهورية. 

وأذكر أن جيلنا تربى على قراءة قصيدة «مصر التى فى خاطرى»؛ المطبوعة على غلاف الكراسات المدرسية، وشُنفت آذاننا بسماع أغنيات الطفل الجميلة من عمالقة الغناء؛ إلى جانب الأغانى الوطنية الحماسية التى افتقدنا بريقها الآن، وانكمشت وتوارت «جينات الوطنية»  بجلسات الأطفال خلف زجاج دكاكين الغزو الأمريكى لتناول وجبات الـ«تيك اواى»؛ بدلاً من السعى إلى قراءة كتاب بالمكتبات العامة أو المنازل، ويصبح التفاخر بزيارة تلك الأماكن بين الأقران سمة من سمات العصر، وكأن لسان حالهم يقول: «القعدة فى كنتاكى.. ولا وطنية الكاكى»، والمقصود بالـ«كاكى» هُنا هو لون الزى الموحَّد للجيش المصرى؛ مدرسة الأبطال والفخر لكل مصرى، وهو لون مشتق من لون «رمل الصحراء» الذهبية على الحدود، ولكن أين تنمو شجرة الوطنية الحقة وسط هذا الهجوم الكاسح بكل مغريات العصرعلى العقل المصرى والعربى عمومًا؟ ناهيك عن اللعَبْ والهدايا التى تمنح مع تلك «الوجبات السريعة» فهى عبارة عن «مسدس»، أو «بندقية»، أو لعبة بلاستيكية تمثل جنديًا قويًا من جنود «المارينز»، أو «سلاحف النينجا»؛ لإعطاء المزيد من الإحساس بالدونية والقهر داخل المشاعر والأحاسيس للطفل وأحاسيسه «البِكْر»؛ التى يتم تشكيلها بدس السم فى قوارير العسل!

وربما يتعلل البعض بأن الأسرة مسئولة عن تنمية الشعور بالانتماء للوطن ومقدساته؛ وتحميل الأسرة عبء هذا التشكيل فى فترات النمو البدنى والعقلى والمعرفى،  نعم.. ولكنى أقول إن على الدولة الدور الأكبر فى صقل ودعم الأسرة أولاً، فكيف ينمو «العود الأخضر» فى الرمال الجرداء؛ والخالية من مصادرماء الثقافة الجادة؟ فكل خبرات الطفل تُستمد من خبرات الأسرة التى نشأ بين أحضانها، وعلى المؤسسات السيادية كوزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة وقنوات الإعلام المسموع والمرئى؛ إمداد المجتمع بالمادة الخام عن طريق تشجيع الشعراء والملحنين؛ للعكوف على إنتاج أغانى للطفل التى تتغنى بكل البطولات فى تاريخ وطنه؛ والإضاءة على سيرة الأبطال الذين خاضوا معارك الكرامة والشرف فى سبيل الحرية.

ولتكن تلك هى البداية لتحقيق حلم «علماء الاجتماع» فى تثبيت بعض «أدبيات التربية» فى أذهان الكوادر التى تقوم على تشكيل الإحساس الجمعى المصري؛ بما يحقق الإيجابية والاندماج مع توجهات الوطن ومقاصده فى خلق جيل جديد يحمل بين جنباته روعة الانتماء والإخلاص لكل القيم السامية فى الحياة.

ولن يتسنى هذا الذى نطمح إليه؛ إلا بفتح النوافذ لهواء الفنون النقى؛ ليدخل إلى قاعات الدرس والتحصيل، ليملأ الصدور المتعطشة إلى الخروج من «صومعة» الفكر المتخلف، ونبذ كل ماهو ليس معقولاً ولا مقبولاً فى الكتب الصفراء؛ المكتوبة منذ آلاف السنين، والتى يتم فرض دراستها على الأجيال الجديدة؛ دون مراعاة لمتغيرات العصر المتسارعة فى كل لحظة، والعودة إلى إطلاق ملَكَات الإبداع والابتكار فى عقول الأطفال؛ وإعادة فتح «قاعات الرسم والصلصال»، و«قاعة الموسيقا» التى احتلتها المقاعد الخشبية الصمَّاء، لاتُنتج سوى عقول خاوية، أو تحمل كل موبقات الأفكار المتطرفة التى ابتلينا بها فى الآونة الأخيرة.

إنارة العقول وتنمية الأفكار؛ تحتاج إلى جهود المخلصين فى عالم الفنون والآداب والموسيقا، إلى جانب العلوم التقليدية، مع اكتشاف وتشجيع المواهب؛ وتوجيههم الوجهة الصحيحة لصقل مواهبهم وتعضيد إمكاناتهم الذهنية بالدعم المادى، وتوفير ما يحتاجونه من أبحاث وكتب فى تخصصاتهم.

 ولن يصيبنا الملل من تكرار هذا الطلب المشروع، لننعم ـ وتنعم أجيالنا الصاعدة ـ  بكل قيم الحق والخير والجمال.. والحرية، فجائحة كورونا إلى زوال بمشيئة الرحمن،ليتنا نعيد ترتيب أوراقنا لغرس شجرة الوطنية فى صدور أطفالنا من جديد!