الخميس 25 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
رحلة المومياوات الملكية: عن رمسيس الثانى أتحدث

رحلة المومياوات الملكية: عن رمسيس الثانى أتحدث

عاش المصريون لحظات فخر وزهو أمام شعوب العالم أجمع.. وهم يتابعون رحلة 22 من المومياوات الملكية، وسط موكب مهيب يليق بعظمة الأجداد وعراقة الحضارة المصرية المتفردة، من المتحف المصرى بالتحرير، إلى المتحف القومى للحضارة المصرية بالفسطاط.



وقد تابعتُ خلالها عبر شاشات التليفزيون تلك الرحلة الملكية غير المسبوقة فى بهائها وعظمتها، ومنهم فرعون مصر الأشهر (رمسيس الثانى)..‏ وقد دفعنى فضولى القانونى‏-‏ وبحكم تخصصى الدقيق فى القانون الدوليى-‏ أن أبحث وأنقب عن الدور الذى لعبه ذلك الملك المصرى فى نشأة وتأسيس القانون الدولي‏..‏ بما يتضمنه من قواعد للعلاقات الدولية وأخلاقيات للحرب وأسس للسلام القائم عليى (‏الحق والعدل‏).    

بدأ رمسيس الثانى‏-‏ الذى حكم مصر لما يقرب من 67 عاما ‏-‏ عصرًا جديدًا سُمّى «عصر الإمبراطورية الثانية‏»‏ وعمل على إحياء النفوذ المصرى فى بلاد الشام الذى كان قد ضعف بعد ثورة‏ «أخناتون» الدينية‏..‏ حيث كانت تسيطر على الشرق الأدنى القديم قوتان عظيمتان‏:‏ مصر فى الجنوب والحيثيون بآسيا الصغرى فى الشمال‏، وقد أرادت كل قوة من الاثنتين أن تلعب الدور القيادى فى المنطقة وتبسط نفوذها فى الأقاليم الواقعة بين قطريهما حتى التقت القوتان العظيمتان فى معركة قادش‏..‏ ففى العام الخامس من حكم الملك رمسيس الثانى أى عام ‏1285‏ ق‏.‏م قاد الملك جيشا من أربع فرق تحمل أسماء الأرباب المصرية الرئيسية ‏(‏آمون ورع وبتاح وست‏)‏ لملاقاة الحيثيين فى أقصى موقع فى الشمال يمكن للجيش المصرى أن يصل إليه‏....‏ وكانت تلك القوات متمركزة قريبا من أرض‏ «عامور‏»‏ فداهمت الحيثيين من الخلف محدثة ارتباكا بين صفوفهم الخلفية وقتل عدد كبير من الحيثيين أو جرح أو أغرق‏، وتوسل باقى الجيش طلبا للسلام وفروا إلى قلعة قادش المحاطة بالمياه‏، ورغم ذلك فإن القوتين العظميين بقيتا متعادلتين تقريبا بعد تلك المعركة الطاحنة‏.

عاود ملك الحيثيين بعد معركة قادش عدوانه وإثارة الاضطرابات مرة أخرى ضد مصر فى بلاد الشام فحاربه‏ «رمسيس الثانى»‏ واستمرت الحرب مدة خمسة عشر عاما التى عرفت تاريخيا بملحمة قادش‏..‏ انتصر فيها المصريون نصرا مؤزرا‏..‏ إنها ملحمة عسكرية مصرية سجلها التاريخ ومازالت تدرس حتى الآن فى الأكاديميات العسكرية فى العالم كله‏..‏ وهذه الملحمة منقوشة على جدران معبد الأقصر وفى قاعة الأعمدة فى معبد الكرنك وفوق البوابة الثانية فى معبد الرمسيوم فى القرنة‏..‏ ولم تضع الحرب أوزارها حتى طلب ملك الحيثيين الصلح‏..‏ واستجاب رمسيس الثانى حقنا للدماء وإرساء للسلام القائم على الحق و العدل‏، وعقد الفريقان معاهدة سلام‏.

أبرمت تلك المعاهدة كأول معاهدة دولية مكتوبة عرفت فى تاريخ البشرية بمعاهدة قادش عام‏1258‏ ق‏.‏م بين‏ «رمسيس الثانى» وملك الحيثيين‏..‏ تعهد فيها كل منهما للآخر بعدم الاعتداء وإعادة العلاقات الودية ومساعدة كل منهما للآخر فى حالة تعرضه لهجوم دولة أخرى‏..‏ وقد نصت على أنه‏ «إذا هرب شخص أو اثنان أو ثلاثة من أرض مصر ولجأوا إلى أرض الحيثيين فإن ملك الحيثيين يرسلهم إلى رمسيس الثانى لكن من يعاد إليه لا يتسبب عمله هذا فى هلاك بيته أو زوجه أو أولاده أو قلع عينه أو صم أذنيه أو قطع لسانه أو قدميه ولا يوجه إليه اتهام بأى عمل إجرامى والمعاملة تكون بالمثل مع من هرب من أرض الحيثيين إلى أرض مصر‏»‏ ويؤكد هذا المثل على حقيقة أخلاقية وإنسانية تحكم العلاقات الدولية وتهدف إلى تقديس حياة الإنسان وحمايتها فى أوقات السلم والحرب‏..

أهمية معاهدة قادش تبرز فى تاريخ العلاقات الدولية فى أمرين جوهريين‏:‏ أولهما أن هذه المعاهدة تعتبر أقدم وثيقة مكتوبة حتى الآن فى تأريخ القانون الدولي‏، والآخر أن هذه المعاهدة بقيت حتى العصور الوسطى ‏(‏النموذج المتبع‏)‏ فى صياغة المعاهدات لما تضمنته من مقدمة ومتن وختام‏..‏ ومن أهم مبادئ هذه المعاهدة التى تعد أصولا عامة فى القانون الدولى حتى الآن‏:‏ أهمية المبعوثين والرسل ‏(‏السفراء‏)‏ والاعتراف بمركزهم فى تحقيق السياسة الخارجية‏..‏ ثم التأكيد على إقامة علاقات ودية وإشاعة السلام القائم على ضمان حرمة أراضى الدولتين وتحديد أطر التحالف و الدفاع المشترك‏!!‏ وكذلك مبدأ تسليم المجرمين والعفو عنهم إنما دون تمييز بين المجرم العادى والمجرم السياسى‏..‏ ولعل من أهم ما يميز هذه المعاهدة عن غيرها أنها أخذت مساحة جغرافية كبيرة حيث تمتد من أضنه فى جنوب تركيا وحتى مكة المكرمة حيث ورد اسمها فى المعاهدة باسم بكة‏..‏ كما تمتد من الكويت مرورا بمنابع دجلة والفرات وحتى سيناء ‏(‏أرض الفيروز‏)..‏

ما أحوجنا اليوم‏-‏ نحن المصريون‏-‏ أن نتذاكر ونتدارس تلك الأحداث التاريخية المفصلية فى التاريخ الإنسانى من ريادة للقانون الدولى وغيره للعديد من فروع العلم المتنوعة‏..‏ ليس للزهو والفخر‏-‏ فحسب‏-‏ بحضارة كانت‏، ولكن بالإصرار والتحدى على صنع حضارة كائنة‏..‏ أو يجب أن تكون‏ بإذن الله. وبالقانون تحيا مصر