الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
موكب المومياوات.. مقياس النهضة الثقافية ورسالة الاستقرار

موكب المومياوات.. مقياس النهضة الثقافية ورسالة الاستقرار

لا بد وأن هناك مقاييس كثيرة تحدد نهضة الأمم وتقدمها أو دعنا نقول إنها مقاييس تبين للآخر مدى ما حققته الأمم من إنجاز سواء فى حقبة معينة أو على صعيد معين، ولعلة ليس من نافلة القول أن نؤكد أن النهضة الثقافية التى تعيشها أى أمة هى أحد هذه المقاييس الهامة التى تكشف بجلاء الطفرة الشاملة التى تعيشها الحضارة فى إقليم ما، والحقيقة أن مسألة التقدم الثقافى والنهضة الفنية والفكرية هى مفتاح الظهور لأى أمه من الأمم والسبب فى ذلك واضح وجلى أولا أن النهضة الثقافية هى معيار قاطع للتقدم فى البنيتين سواء البنية الفوقية أو البنية التحتية فهى بينة تحتية بالنسبة للنهوض بالمجتمع وهى بنية فوقية كدليل على تقدم هذا المجتمع وظهور دلائل التحضر فيه ودعنا نقول إن هذا المقياس ظهر بجلاء فى موكب المومياوات الملكية ذلك الحدث العالمى الذى عشناه منذ أيام وتابعناه بترقب وشغف بل ومتعه بالغة على مئات القنوات ووسائل العرض الإعلامى سواء الكلاسيكية منها أو الحديثة مثل منصات التواصل الاجتماعى والحقيقة أن الحدث كان عالميا ومبهرا بكل المقاييس وغير اعتيادى لدرجة أن أحد الإعلاميين الأجانب الذى كان يتابع معى الحدث قد سألنى عدة مرات وبصيغ عدة: هل هذه حقا مصر أم هو عرض جرافيكى افتراضى.. وكان ردى أن كل ما رأيته حقيقى وغير مفبرك بالطبع... فكان عجبه عظيما.. ونحن لا نقول إن هذا يعنى أن مصر سيدة دويلات الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط كانت خرابًا بلقعها ثم نهضت من تحت الرماد – مع أن هذا الوصف قد يكون أقرب للواقع – بل أننا نقول أن وجه مصر الذى علاه الغبار نصف عقد من الزمان قد تم تنظيفه ليعود لسابق عهده ولكن هذه المرة بعلاجات جذرية أدت لأن نرى هذا الجمال الذى يكمن فى هذه الأرض منذ آلاف السنين، الحقيقة أن ما رأينها من تناغم وتوافق وإبداع والذى أذهلنا بدون شك كان نتيجة للطفرة الإنشائية والاقتصادية والسياسية التى عاشتها مصر على مدار بضعة أعوام مضت ومن ثم كانت البنية التحتية هى التى أدت لهذه النتيجة الفوقية بكل تأكيد وكل ما رأيناه كان نتيجة حتمية لحالة من الاستقرار السياسى والاقتصادى والأمنى بل وعلى كل الأصعدة فنحن نعرف أن أى أمة منشغلة بضبط مصيرها على هذه الأصعدة لن تقدم لنا فنا أو إبداعا جمعيا أو رؤية ثقافية واضحة المعالم فهذا الانشغال يعطل بالطبع الانجاز فى الجوانب الثقافية والحضارية، والأمثلة على ذلك كثيرة فنحن نعرف أن أثينا القديمة التى كانت حاضرة العلم والثقافة حينما تفسخت ديمقراطيتها وسقط زمام أمرها فى أيدى الدهماء والغوغاء تحت حجة الديمقراطية ثم دخلت الحرب الأهلية الإغريقية.. تبلبل أمر أثينا وسقطت بسقوطها فى يد المقدونيين قلاع الثقافة والفن فيها.. وانتقلت الشعلة إلى الإسكندرية التى أكملت المسير والحكمة هنا أنه أى أمة تنشغل بتقرير مصيرها ومحاربة تفسخها الداخلى لن يكون عندها الوقت والجهد الكافى لتظهر عندها نهضة ثقافية أو حضارة.. مفتاح السر هنا هو الاستقرار وتأسيس بنية تحتية متينة تصعد عليها قلاع الفكر والثقافة والفن.



لعلنا أيضا نرى فى الرسائل التى عبر عنها هذه الحدث الضخم والأسطورى بمعنى الكلمة تتلخص فى أن الاستقرار هو الذى يكشف عن هذه الجوهرة التى تدعى مصر.. وأن العقل المصرى قادر على الإبداع والإبهار بكل أصالة وقوه فكل القائمين على الحدث مصريون مائة بالمائة ظهروا فى ثوب العظمة والتخصص والإتقان وخصوصا المايسترو الكبير نادر عباسى وهو مايسترو عالمى بحجم مسلة فرعونية تمس عنان السماء أيضا الموسيقار الرائع هشام نزيه الذى خرج علينا بتوليفة موسيقية رائعة بين الكنتاتا والسيمفونية وأعاد لأذهاننا أمجاد كارل أورف فيما قدمه من توليفية موسيقية استوجبت الإنشاد الحماسى والإيقاع الحماسى الذى أجج لدى المشاهد الروح الوطنية، كذلك مخرج العمل الملهم والمتمكن المخرج عمرو عزيز والذى كان على مستوى الحدث ونقلة للعالمية بكل سلاسة وبساطة، الأعجب والأغرب من ذلك هو تفاعل كل طبقات الشعب المصرى بشتى ثقافته ومشاربه بصورة اعتقدت أنها فاقت التوقع وربما كانت هذه هى الرسالة الكبرى التى أرادها هذه العمل الضخم والقائمين عليه، وعلينا أن لا ننسى أيضا أن من ينتقد لا يعمل ولا يستمتع بالنجاحات والفيوضات القلبية التى عشناها مع هؤلاء المبدعين فمن انتقد ميدان التحرير وتصميمه الجديد نم عن جهل وفقر فكرى وقصور عقلى حاد فميدان التحرير الذى أصبح يدانى أكبر ميادين العواصم الأوروبية وتحديدا ميدان بياتزا ديل بوبلو فى روما والذى يتزين بمسلة مصرية مع أربع أسود على محاور أضلع المسلة تحفة فنيه منقطعة النظير لكن ميدان التحرير يدانيه ويتفوق علية لأن أضلع المسلة زينت بكباش أصلية من طريق الكباش الشهير تناغمت مع روح المسلة المصرية الأصيلة حيث تعبر عن حضارتنا التى ارتشف العالم من قطراتها، وبدأ ميدان التحرير أكثر من خيالى حتى أن البعض اعتقد كما أسلفت أنه محاكاة جرافيكية غير واقعية.. 

هكذا تعبر الحضارات عن استقرارها وهكذا تعبر الأمم عن نهضتها.. بالفن والعلم والثقافة والسير صوب المستقبل بعين المستشرف الخبير والعين الأخرى على الماضى التليد الذى كلما احترمناه وحافظنا عليه زادت أصالتنا وابتعدنا كل البعد عن التيه والسقوط فى أزمة تحديد الهوية التى قد تدمر أمما وحضارات.

تحية مستحقة لكل القائمين على العمل المذهل... تحية مستحقة لسيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى.. تحية مستحقة قبل الجميع لمصر التى هى أصل الكل ومنها نبت القلوب وإليها المستقر.. وفيها النشور.