السبت 1 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 51

لغة الجينات 51

«الرضا» أعظم نعمة ممكن الإنسان يمتلكها.. فى الظاهر هى سرُّ سعادة أصحاب الجينات الأصلية، طريقُ السَّكينة، مستقر الطمأنينة، وفى الباطن «الرضا» بيحول حياتهم إلى جنّة، فيبصرون قيمة كل شىء يملكونه.. مهما كان بسيطًا.



«الرضا» كنز من كنوز الحياة، محروم منه أصحاب الجينات الخبيثة.. فالجشع والطمع يسيطر عليهم.. فى الظاهر يخفون طمعهم وجشعهم فى الطموح والبحث عن الأفضل.. وفى الباطن وصمة عار، ستظل تطاردهم طوال حياتهم، فصاحب الجينات الخبيثة لا يقتنع ولا يقنع بما فى يديه، لا يتردد فى أخذ كل شىء حتى وإن كان هذا الشىء صغيراً وتافهاً.. يهين نفسه لأجل المغانم  والمكاسب.

«الجشع»  يذل صاحبه، يضره ولا ينفعه، فى الظاهر صاحب الجينات الخبيثة، لا يشبع من شىء، مناصب، أموال، نفوذ، وفى الباطن لا عزة له ولا كرامة، يعيش حالة فقر نفسى، بلا كرامة أو عزة نفس.

«صاحب الجينات الأصلية يعيش فى  قنوع ورضى، يظفر بالراحة والسعادة، غنى بنفسه وبذاته، فالراضى شخص عظيم سلك طريق الصواب لينعم بحياة رغدة بعيداً عن الضغينة وتمنى الشر وزوال النعم لغيره.

«أستاذ الجيل» أحمد لطفى السيد.. واحد ممن امتلكوا جينات أصلية، فى الظاهر مثقف كبير.. فيلسوف يثار حوله الجدل.. وفى الباطن الرضا يسيطر على حياته كلها ولدرجة أنه رفض منصب رئيس الجمهورية، وظل قانعا بدور المثقف الذى ينشر الوعى.

نعم الدكتور أحمد لطفى السيد رفض رئاسة الجمهورية.. رفض عرضا من جمال عبدالناصر برئاسة مصر عقب يوليو 1952.. المعلومة أكدها محمد حسنين هيكل والذى حمل الرسالة إلى أستاذ الجيل.

فى الظاهر، كان الرجل حلا لأزمة مارس الشهيرة.. بديلا لمحمد نجيب الذى كان على وشك الخروج من اللعبة السياسية بكاملها.. وفى الباطن.. رمز يطمئن له الجميع فى وقت لم يكن فيه أحد يطمئن لأحد.. فى هذا الوقت طلب عبدالناصر  من هيكل أن يذهب إلى أستاذ الجيل فى بيته فى أواخر 1954 وأوائل 1955، وينقل له اقتراح بأن يتولى رئاسة الجمهورية.. ولكن الرجل رفض.. وفى نفس الجلسة، لم يطلب وقتا ليفكر أو يستشير أحدًا.

فى الظاهر جاء الرفض بصيغة لطيفة  «أنا رجل فى نهاية عمرى، ليست عندى الصحة للدخول فى عمل جديد وتجربة جديدة تبدأ الآن بالكاد، هذا أولا، أما ثانيا، كل إنسان نهض بمسئولية عمل عام، عنده هو وليس عند غيره تصور كيف يكملها».. وفى الباطن وبحسب كتاب «أعلام مجمع اللغة العربية» قال أستاذ الجيل: «لست أقبل أن أكون طرطورًا فى رئاسة الجمهورية. ..إننى أفضل أن أبقى جالسًا على الكرسى الذى أجلس عليه الآن فى مكتبى بالمجمع اللغوى وأنهى حياتى بطريقة طبيعية على أن تُنهى حياتى بطريقة غير طبيعية».

«نعمة الرضا» لم تكن جديدة على أستاذ الجيل.. فالرجل خاض معاركه كلها برضا شديد يترك منصبًا من أجل مبادئه.. ويترك السياسة عند أول صراع على زعامة أو غيرها ويعود للوظيفة راضيًا بدوره فى التنوير ونشر الوعى.

 «أحمد لطفى السيد» فى الظاهر حصل على ليسانس الحقوق وعمل بالنيابة، وتدرج فى مناصبها حتى عُين نائبًا للأحكام بالفيوم فى العام 1904 وفى الباطن  يشترك مع صديقه القديم عبدالعزيز فهمى، فى تأسيس جمعية سرية باسم «تحرير مصر»

 يترك العمل المستقر ويسافر إلى سويسرا والإقامة بها سنة لاكتساب الجنسية، والعودة إلى مصر لإصدار جريدة تقاوم الاحتلال البريطانى، محتميًا بجنسيته المكتسبة.

فى الظاهر يدرس الفلسفة والآداب دراسة حرة بجامعة جنيف.. وفى الباطن يستعد للدفاع عن الهوية المصرية فالرجل لا يؤمن بأى معنى لكلمة الأمة إلا «الأمة المصرية»، يرفض الخلافة العثمانية ويختلف مع مصطفى كامل وأحمد شوقى وغيرهما من المدافعين عن الخلافة والمطالبين بأن تستمر مصر ولاية عثمانية.. يرفع شعار مصر للمصريين.. ويكتب «إن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد القومية الوطنية.. نريد الوطن المصرى.. إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها»

 عمل أستاذ الجيل لفترة رئيسًا لدار الكتب.. وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى فى العام 1918 استقال، واشترك مع سعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى وغيرهم فى تأليف وفد للمطالبة بالاستقلال، وبعد  نُفى سعد زغلول ورفيقيه إلى خارج البلاد، اشتعلت البلاد بثورة 1919، وظل أحمد لطفى السيد فى القاهرة يحرر بيانات الوفد ومذكراته، وتطور الأمر إلى رضوخ بريطانيا للتفاوض، وتشكلت وزارة حسين باشا؛ فأفرجت عن الزعماء المنفيين، وسافر لطفى السيد مع الوفد المصرى إلى باريس، لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام المنعقد فى فرساى.

ولما اشتعل الخلاف بين عدلى يكن رئيس الوزراء وسعد زغلول زعيم الثورة فى العام 1919 على رئاسة المفاوضات مع بريطانيا، اعتزل أحمد لطفى السيد العمل السياسى، راضيًا بما حققه.. وعاد إلى العمل بدار الكتب مديرًا لها.

ألم أقل لكم... ليس هناك أجمل من نعمة الرضا.. فمن لا يرضى لا يشبع ومن لا يشبع لا يكون حامدًا لله على نعمه..

اعلم أن الرِّضا نعمةٌ من أعظم النِّعَم فى حياتنا، وهو مرتبةٌ عاليةٌ تُضفى على النفس هدُوءًا وطُمَأْنينةً.. فالله سبحانه لم يقل لرسوله الكريم: ولسوف يعطيك ربك فتسعد.. وإنما قال: ولسوف يعطيك ربك فترضى؛.. أسكن الله الرضا قلوبنا وقلوبكم.