الخوف.. الفكرة الهلامية السوداء.. والأغراض السياسية!
قال العقاد: الخوف من الموت غريزة حية لا معابة فيها، وإنما العيب أن يتغلب هذا الخوف علينا ولا نتغلب عليه!
وقال صلاح جاهين: سهـِّـيـر ليـالى ويـامـا لفيـت وطفـت
وف ليلـة راجـع فى الضـلام قمـت شفت
الخـوف.. كأنـه كلـب سـد الطريق
وكـنـت عـاوز أقتـله.. بس خفـت
عـجبى! وعند العقاد أيضا فى تطوافتنا حول استبيان الخوف ان«النفس الإنسانية يتنازعها عاملان قويان، هما حب الحياة والخوف من الموت، وبهذين العاملين يتعلّق الشعور بالجميل والجليل؛ فالجميل كل ما حبّب الحياة إلى النفس وأظهرها لها فى المظهر الذى يبسط الرجاء فيها ويبعث على الاغتباط بها، والجليل كل ما حرّك فيها الوحشة وحجب عنها رونق الحياة ؛ فالربيع والصباح والنور والصحة والشباب والحركة والمناظر الرائقة والخضرة والأبنية المزخرفة، كلها جميلة؛ لأنها تنعش الحواس وتذّكرها بالحياة، والشتاء والليل والظلمة والمرض والهِرم والسكون والقفار المخيفة والأطلال الدارسة والصروح القوية المتينة التى تنبىء بتعاقب السكان عليها والمعابد والهياكل والقوى الطبيعية الهائلة، كلها جليلة؛ لأنها تقبض الحواس وتميل بالنفس إلى التضاؤل والضِعة أمام رهبة الفناء وعظمة الطبيعة وضخامتها.
الجميل مظهر القدرة والجليل مظهر القوة؛ والنفس تقابل القدرة بالإعجاب، والقوة بالخشوع !» «خلاصة اليومية والشذور».
إذن فالإنسان: كتلة من اللحم والدم.. والشعور! والشعور هو ترجمة للمشاعر، التى تتأرجح فى خيالاته وأفكاره صعودًا وهبوطًا طيلة حياته القصيرة على الأرض؛ بين نزعة الحُب والكراهية والطموح والطمع والرغبة والشهرة والمال والمنصب والسلطة والسفر؛ ليظل حائرًا تائهًا بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء؛ كأنه قطعة الحديد المصهور بين المطرقة والسندان!! ولكن يبقى شعور «الخوف» هوالمسيطر على الوجدان وسط كل تلك الخيالات والأمنيات والتطلعات، فإذا جاز لنا أن نرمز بالألوان لكل مشاعر الإنسان؛ فسيكون «الأحمر» هورمز الخوف الدائم والمستمر، الذى يبرق فى الخاطر، كأنه ناقوس الخطر الذى لايهدأ ولا يتوقف!
فالخوف احساس قوى ومزعج تجاه خطر ما، إما حقيقى أوخيالي، وهوالعدوالأعظم للإنسان؛ والسبب وراء الفشل والمرض والخلل الذى ينتاب العلاقات الإنسانية فى مراحل العمر المختلفة، فالعوامل المسيطرة هى الخوف من الماضى، والمستقبل، والمرض، والشيخوخة، والفقر، وشبح الموت بالضرورة، فالخوف هو«الفكرة الهلامية السوداء» التى تحتل الدماغ وتسيطر عليه، وربما تكون هى مصدر «خميرة العكننة» فى كل تصرفات الإنسان ! ناهيك عن الخوف الذى يبثه «الغير» فى النفوس؛ بغية الوصول إلى تحقيق أهداف سياسية، أو حزبية، أو اجتماعية، أو اقتصادية؛ للسيطرة على توجيه الإحساس الجمعى وترهيبه؛ والزج بالمجتمع لاعتناق الأفكار التى يريد فرضها عليه، وغالبًا فإن من يعتنق مباديء بث الخوف والرعب والترقب فى أرجاء الوطن؛ لا يكون من حملة الأهداف النبيلة التى تخدم الصالح العام؛ ولكنه يعمل على سيطرة فئة ضئيلة منفلتة بعيدًا عن القوانين والتقاليد والأعراف، ويلجأ ـ من عقدة الضآلة ـ إلى تفعيل ونشر الخوف فى عقول وأرواح بقية المجتمع، ليصيبه بما يشبه الشلل فى التفكير والإبداع؛ ويقتل التطلع إلى الارتقاء والسمو؛ ويصبح المجتمع رهينة لكل الأفكار السوداوية الرجعية المناوئة لأهداف الدولة التى تعمل للوصول بالمجتمع إلى الرفاهية المنشودة؛ وتحقيق المرادف للخوف وهو« الأمان» و«الاستقرار» الذى فى أجوائه يتولد الإبداع وزيادة مصادر المعرفة ؛ وتهيئة المناخ الذى يحقق كل برامج التنمية.
ولكنى لا انظر إلى المجتمع بنظارتى السوداء فقط، بل أجنح إلى الرؤية المعتدلة السوية للإضاءة على نوع آخر من أنواع الخوف؛ وهوالخوف الإيجابى ونزعته الفطرية فى روح الإنسان السوى العاقل المتولد من الذات؛ وهوأرقى أنواع الخوف الذى ينأى بصاحبه عن كل الأعمال غير الإنسانية وغير النبيلة، ويتمتع صاحبه بيقظة الضمير والأيادى النظيفة التى لم تتلوث لا بأموال الآخرين ولا بدمائهم، وهذا الخوف نابع من إرضاء الضمير والمحافظة على السمعة والشرف .هذا الإحساس الذى نستبدل معه كلمة «الخوف» بكلمة سامية رفيعة من روائع لغتنا العظيمة ؛ وهى كلمة «خشية الله»؛ وهوالخوف الراقى الذى كلما ازداد؛ ازدادت معه فرص النجاح والفلاح والتقدم المادى والمعنوى للفرد والمجتمع.
ولعل «تفسير القرطبى» لـ«سورة قريش» ؛ تعطينا الدلالة الواضحة الجلية لما كان عليه المجتمع المؤمن الذى يتمتع بخشية الله فى ذاك الزمان.. قال المولى عز وجل عنهم : لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿١﴾ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿٢﴾ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ ﴿٣﴾ الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴿٤﴾! و«الإيلاف» فى تفاسير اللغة هو«الإجارة»؛ أى منح الأمان والسلامة والحماية.
ومما لاشك فيه أننا بحاجة ماسة إلى الخوف الإيجابى فى سلوكياتنا الحياتية، ونبذ كل مايؤدى إلى وساوس الخوف السلبى الذى يعيق حركة الزمن والتاريخ والإنسان ؛لنصل إلى كل مانصبوإليه من ارتقاء وسمو لصالح المجتمع ، وليصبح العقل الجمعى متمتعًا بكل الأمان والطمأنينة، ويكون إعمال العقل هوالحاكم والمسيطر على كل المقدرات والخيرات فى أرجاء الوطن. فلنقتل الخوف المحطم للهمم من داخلنا مع يقظة ضمائرنا وتفانينا فى العمل حتى نستطيع كسر كل الحواجز والمعوقات النفسية التى تقف حجر عثرة أمام بلوغنا القمم المأمولة التى نبتغيها محققة على أرض الواقع لبلادنا المنهكة من كثرة ماتقاومه من مخططات التقويد والإضعاف المتلاحقة فلنسعفها بشجاعتنا وقهرنا لجميع الصعوبات. وتحضرنى مقولة د.مصطفى محمود: «إنك لن تدرك مدى خوفك ولا مدى شجاعتك إلا إذا واجهت خطراً حقيقياً ولن تدرك مدى خيرك ومدى شرّك إلا إذا واجهت إغراء حقيقياً».
لذا علينا أن نتعلم كيف نواجه ضغوط الحياة اليومية ونتعامل معها، ونحدد أهدافا واقعية، وننظر للتغيير على أنه تحد إيجابى وليس تهديدا، ونسعى لحل خلافاتنا مع الآخرين، وتعزيز العلاقات الاجتماعية الآمنة، الانخراط فى العمل التطوعى والاجتماعى، وإعادة النظر فى مشكلاتنا وننظر لها من منظور مختلف قابل لإيجاد الحلول، وفعل كل ما من شأنه أن يبث السكينة والشعور بالأمان والطمأنينة والراحة النفسية الطاردة للمخاوف.
ليتنا نقهر الأخطار الحقيقية التى نحن بصددها فى هذه الآونة بكل مانحمله من جينات الخير والعطاء لنحيا وتحيا مصرنا المحروسة فى سلام وأمن وأمان برغم أنف مهاطيل زبانية الشر!
أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعى ـ أكاديمية الفنون