الجمعة 5 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
سر العظمة فى رمضان

سر العظمة فى رمضان

 (*) يتجدد لقاء المسلمين فى شهر رمضان الكريم فى مشارق الأرض ومغاربها بسر العظمة الحقيقية فى كوامن النفس البشرية.. وليكشف لنا سر هؤلاء العظماء الذين يراقبون الله خفية فلا يأكلون ولا يشربون ولا يلهون.. الطاعة مسلكهم، ورضاء الله غايتهم، والجنة مطمعهم... وهذا هو فيما أعتقد ليس فقط غاية هذا الشهر الفضيل، وإنما رقة القلب وتهذيب النفس.. وطيب المعاملة مع الآخرين (فهو صانع العظماء).. وهو مايقودنا إلى الحديث عن جانب مهم من سجايا وسمات العظماء.. وأخص بالذكر منهم الأنبياء، وأعظمهم محمد رسولنا الأكرم (صلى الله عليه وسلم).



(*) فمن العظماء، من إذا استغرقت فى عناصر شخصيته فإنَّك تلتقى بذاته فى نطاق الدائرة المحدودة من تلك العناصر التى جعلت منه إنساناً عظيماً صاحب فكرٍ أو صاحب قوّةٍ وما إلى ذلك، ما يمنح شخصيته ضخامتها الذاتية التى لا تمتد إلى أبعد من ذلك. ومن العظماء من إذا استغرقت فى داخل شخصيته فإنَّك تنفتح على العالـم كلّه، ذلك هو الفرق بين عظيم يجمّع عناصر عظمته من أجل أن يؤكّد ذاته وبين عظيم يجمّع هذه العناصر من أجل أن يعطى الحياة عظمة ويتجه بالإنسان إلى مواقع العظمة حتى تكون عظمته حركة فى الحياة، حركة فى الإنسان، ويجتمع الإنسان والحياة وينطلقان ليعيشا مع أجواء العظمة فى اللّه العليّ العظيم.

(*) من أولئك أنبياء اللّه الذين عاشوا للّه، فاكتشفوا الحياة من خلاله لأنَّها هبته، واكتشفوا الإنسان من خلاله، لأنَّه خلقه. وبذلك، فإنَّهم لـم يعيشوا مع اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ استغراقًا فى ذاته بالمعنى العاطفى للكلمة، لتكون كلّ حياتهم مجرّد تأوّهات وتنهّدات وحسرات وما إلى ذلك، ولكنَّهم رأوا بأنَّهم عندما ينقذون الإنسان من جهله، إنَّما بذلك يعبدون اللّه، فقد ارتفعوا إلى اللّه من خلال رفعهم للإنسان إلى مستوى المسئولية عن الحياة من خلال تعاليم اللّه، عاشوا الآلام والحسرات مع اللّه من خلال حملهم لآلام الإنسان وتنهّداته من أجل أن تنطلق روحانيتهم فى قلب مسئوليتهم.

ولذلك فالأنبياء ليسوا شخصياتٍ عظيمةً تعيش فى المجال الطبقى الذى يصنعه النّاس لعظمائهم، ولكنَّ الأنبياء كانوا يعيشون مع النّاس، كانوا فيهم كأحدهم، يأكلون الطعام، ويمشون فى الأسواق، يفتحون قلوبهم لإنسان يعيش ألمًا من أجل أن يفسحوا المجال للفرح حتّى يطرد ذلك الألـم، يتواضعون للنّاس، يستمعون إلى آلامهم، يشاركونهم، يعيشون معهم، لا يتحسّسون فى أنفسهم أيّة حالة علوّ وهم فى المراتب العليا، وممّا تنقله لنا السيرة بأنَّ رسول اللّه كان ذات يوم يسير ورأته امرأة فارتعدت هيبةً له.. فقال (صلى الله عليه وسلم): ما عليك إنَّما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد.

(*) محمد رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ارتفع إلى أعلى درجات العظمة عندما عاش حياة الإنسان، محتضناً له، ليرحمه وليرأف به، فلأنَّ سرّ إنسانيته فى سرّ نبوته، فى سرّ حركته فى الحياة.. فننظر كيف قدّمه اللّه إلينا؟

لـم يذكر لنا نسبه، ونحن دائماً نُصرّ على العائلية فى الحديث، فلـم يتحدّث لنا عن هاشميته ولا عن قرشيته ولا عن مكيته، لـم يحدّثنا عن اسم أبيه، عن اسم أمّه، ولكن حدّثنا عنه بصفته الرسولية الرسالية: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}، لـم يأتِ من فوق ليطلَّ عليكم من علياء العظمة، ولد بينكم، عاش معكم، تألَّـم كما تتألمون، وعاش الجوع كما تعيشون، وعاش اليُتم كما تعيشون اليُتم عندمـا تكونون أيتاماً،{من أنفسكم}وكلمة من أنفسكم تحمل فى داخلها عمق المعنـى الإنسانـى الذى يجعل النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فى الصورة القرآنية إنساناً مندمجاً بالنّاس الآخرين، يعيش معهم، من داخل حياتهم، من داخل آلامهم، من داخل أحلامهم، من داخل قضاياهم، بحيث لا يوجد بينهم وبينه أيّ فاصل، إنَّه يتابعكم وأنتم تتألمون، يتابعكم وأنتم تتعبون، يتابعكم وأنتم تواجهون مشاكل الحياة التى تثقلكم، يعزّ عليه ذلك ويؤلمه ويثقله، لأنَّه يعيش دائماً فى حالة نفسية متحفزة تراقب وترصد كلّ متاعبكم ومشاقكم {حريص عليكم} وكلمة حريص هنا تختزن فى داخلها الكثير من الحنان، من الأبوة، من الاحتضان، من العاطفة.. يحرص عليكم فيضمّكم إليه، فتعيشون فى قلبه، يقدّم لكم حلولاً لمشاكل حياتكم، عن كلّ تعقيداتكم، يحرص عليكم فيوحّدكم، ويجمع شملكم تماماً كما يحرص الأب على أبنائه والأم على أولادها، حريصٌ عليكم يخاف أن تضيعوا، يخاف أن تسقطوا، يخاف أن تـموتوا، وهو {بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة:128) الرأفة كلّها والرحمة كلّها، والرحمة فى القرآن الكريـم ليست مجرّد حالة عاطفية، نبضة قلب وخفقة إحساس، بل الرحمة هى حركة الإنسان فيما يمكن له أن يحمى الإنسان، من نفسه، ومن غيره، من أجل الانطلاق بالإنسان.

كل رمضان.. والمسلمون فى شتى بقاع الأرض «عظماء».. خلقًا وسلوكًا ومنهجًا.

وبالأخلاق تحيا الشعوب