الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
«كريستوف جلوك» والصراع  بين الوطنية والأصالة

«كريستوف جلوك» والصراع بين الوطنية والأصالة

يعتبر الفنان الكبير كريستوف فيليبالد جلوك هو من موسيقارى الحقبة الذهبية الألمانية أى عصر عنفوان الموسيقى الكلاسيكية والتى كانت آخذة فى الازدهار بعد انهيار تقاليد موسيقى الباروك ويكفى أن نقول أن جلوك كان معاصرا لعظماء مثل موتسارت وهايدن وغيرهما من عظماء الموسيقى الألمانية، وبالنسبة لفن الأوبرا كان الصراع على أشده فى ألمانيا بين فريقين فريق يلقب بالجلوكستين والذى يشجع كتابة الأوبرا باللغات الوطنية وتحرير الليبرتو – النص الأوبرالى – من الإيطالية الكلاسيكية وفريق آخر يطلق عليه البيتشينستين وهم الذين يولون كل الولاء للأوبرا الإيطالية بكل تقاليدها، ولد جلوك فى بريشنج فى بافاريا عام 1714 وتوفى فى فيينا عام 1787.



( على ما يبدو أن صديقنا الموقر كرستوف كان قد اشتد ولعه بعالم الموتى فها هو بعد أن ذهب مع أورفيوس فى رحلته الحزينة لهاديس وسكب بموسيقاه دموعه فى الأنهار الخمسة، ها هو الآن يرحل مع هيراكليس إلى عالم الموتى مرة أخرى.. عجبا لنا معشر الموسيقيين نحب الحياة حبا جما ونملأ موسيقانا بعوالم الموت والرحيل).

هكذا عبر الموسيقى الكبير فرانز جوزيف هايدن عن رأيه فى أهم عملين أوبرالين للموسيقار العظيم كريستوف جلوك والذى كان وقتها على وشك أن يخرج للجمهور عمله الأوبرالى الرائع أوبرا ألكستيس والتى استقى موضوعها من أشهر الأساطير الإغريقية كما كانت رائعته التى سبقتها وهى أوبرا – اورفيس ويوريديكى – قد اعتمدت على أسطورة إغريقية أيضا، ونلاحظ هنا أن هايدن يلمح أن جلوك استخدم موضوعا شبيها فى عمله الجديد أى أوبرا ألكستيس والتى كان جزء من موضوعها رحلة إلى هاديس أو العالم الآخر عند الإغريق كما كانت أيضا أورفيويس ويرويديكى تضم رحلة مطولة إلى نفس العالم بحيث تشترك الحكاياتان فى نفس الموضوع أى استدعاء قضية الموت والصراع وفكرة الخلود والحياه من منظورين مختلفين.

ربما علينا أن نعترف أيضا أن الفن الأوبرالى فى العالم كله يعانى وعكة عويصة وتراجعا ملحوظا فى الثلاثين عاما الأخيرة بحيث يتجه المغنون الكبار للأداء الصولو وتتجه دور الأوبرا للتركيز على عروض نوعية غير عروض الأوبرا الكبيرة فبعد أن كانت دار ضخمة وشهيرة مثل مسرح أوبرا –لاسكالا- فى ميلانو بعد أن كانت تقدم ثمانين عرضا أوبراليا على مدار العام ووربما أكثر فى سبعينيات القرن المنصرم أصبحت تقدم ما لا يزيد على 21 عملا أوبراليا فى العام وربما أقل وهذا تراجع كبير ومؤشر إن دل فيدل على أن فن الأوبرا العريق فى طور الاحتضار، ما علينا من أنه منذ عقود لم تسفر القريحة الفنية فى العالم عن أوبرا جديدة لكن الأكثر مرارة من ذلك أن دور أوبرا عريقة وكبيرة أصبحت تشعر بصعوبة استقدام فرقة أجنبية تقدم عرضا على خشبتها ومن ثم تكتفى بنقل أوبرات من مسارح عالمية أخرى مثل مسرح المتروبوليتان على الهواء على شاشات معدة لذلك فى القاعات للجمهور وهذا أن أردنا الدقة فى التعبير سخفا ليس بعده سخف لأنه يقتل أهم عنصر فى العرض الدرامى سواء كان أوبراليا أو مسرحيا وهو التفاعل الآنى واللحظى بين الجمهور والممثلين أو المغنين فما الفرق إذن بينه وبين مشاهدة عرض فى التلفاز أو عرض مسجل؟.

تعتبر أوبرا ألكستيس هى أحد أهم الأوبرات التى لحنها جلوك لعدة أسباب أهمها أنها من بين أكبر الأعمال الأوبرالية التى تعتمد على أسطورة إغريقية قديمة ومن ثم هى ترتبط ارتباطا وثيقا بفن الأوبرا ذاته ونشأته لأن القارئ الكريم يعرف أن الأوبرا فى الأساس نشأت كمحاولة لإحياء فن التراجيديا القديم وتخيل كيف كانت تؤدى الأعمال المسرحية التراجيدية الكبيرة فى اليونان القديمة وكان ذلك على يد جماعة دينية فنية فى صقلية الإيطالية تعرف بجماعة كاماريتا فى القرن السادس عشر وحيث ولد على يديهم فن الأوبرا فى محاولتهم إعادة تقديم أعمال التراجيدى الإغريقى الكبير – يوربيديس – بنفس تقنياتها القديمة وكانت ربما هى مسرحية ميديا ليوربيديس والتى كانت أول عمل أوبرالى يخرج للوجود، وهكذا تعتبر أوبرا ألكستيس عملا اصيلا ينتمى للأعمال الكلاسيكية الأوبرالية والأهم من ذلك أن الحكاية نفسها أى أسطورة ألكستيس كان قد تناولها يوربيديس نفسه فى تراجيديا من تراجيدياته المطورة لكن لماذا بالتحديد ينتمى فن الأوبرا إلى أعمال يوربيديس دون غيره؟ الحقيقة أن يوربيديس وصل به التطوير فى فن التراجيديا اليونانية مبلغه بحيث استغنى فى آخر الأمر عن أقدم عنصر فى المأساة اليونانية وهو الكورس – الجوقة - الذى كان يشكل بطلا كبيرا فى المسرح الإغريقى القديم ومن ثم أصبح الدور الغنائى فارغا فى تراجيدياته مما دفعه أن يكتب لكل ممثل دوره بشكل غنائى أى أن كل ممثل أصبح يغنى دوره ومن هنا كانت الأوبرا تسعى لإحياء هذا التقليد حين نشأت على يد جماعة كامريريتا، أيضا تحمل أوبرا الكستيس بذرة أخرى من بذور تطوير يوربيديس فى المسرح الإغريقى وهو موضوع المسرحية ذاته فلقد كانت التراجيديا قبل يوربيديس عبارة عن عقدة حزينة وفاجعة من بدايتها لنهايتها ولذا كنا نطلق عليها المأساة لكن يوربيديس قام بشىء جديد فى بعض مسرحياته وهو ابتداع لون جديد يخلط بين المأساة والملهاة فيما عرف بمسرحيات – التراجوكوميدى – والتى كانت أحداثها مأساوية لكنها تنتهى نهاية سعيدة كما فى الكوميديا بل وكان يستخدم نمط التشخيص الكوميدى فى كتابة بعض الشخصيات داخل العمل ومن بينهم شخصية هيراكليس فى مسرحيته ألكستيس والتى تعتبر أحد أعماله التراجوكوميدى الشهيرة، والحقيقة أننا لم نر فيما بين أيدينا أن كتاب التراجيديا كانوا يعالجون أسطورة ألكستيس فى تراجيدياتهم اللهم إلا فى المسرحيات الساتورية التى كانوا يختتمون بها العروض التراجيدية والتى كانت بها بعض الحس الكوميدى، لكن يوربيديس قدمها للمسرح كعمل مستقل.

تحكى أوبرا الكستيس لكريتسوف جلوك أسطورة حكاية الملك أدميتوس الذى يخبره وحى أبوللو أنه سوف يموت عما قريب وانه يعتبره رجلا طيبا ولذلك سوف يعطيه خيارا وهو أن يقنع أحد من أهل بيته ليموت عوضا عنه ومن ثم يذهب أدميتوس لوالده ليقنعه بأن يموت عوضا عنه فيرفض والده كذلك ترفض أمه فيجلس يفكر فى حزن كيف تخلى عنه كل أهلة وبينما هو بعيدا عن قصرة يعود فيخبره الخدم أن زوجته ألكستيس ذهبت للموت طواعية عوضا عنه فيحزن حزنا شديدا وبينما هو غارق فى حزنه وذكرياته يعرج البطل الأسطورى هيراكليس على مملكة أدميتوس فيحسنون ضيافته ويعرف من الخدم قصة زوجة أدميتوس ويعجبه كثيرا إخلاص ألكستيس فيقرر أن يذهب لهاديس عالم الموتى ويصارع هاديس ذاته الموت فى الأساطير الإغريقية وينتزعها من بين براثن الموت ويعيدها إلى زوجها أدميتوس.. الحقيقة أن الموضوع من أطرف موضوعات الأساطير الإغريقية لم تكن هذه الأوبرا هى أول أعمال جلوك التى تسند على أسطورة إغريقية لكنه كان قد عرض منذ سنوات قليلة رائعته الخالدة أوبرا – أورفيوس ويورديكى – والتى كانت تتناول أسطورة أورفيوس الشهيرة وحققت نجاحا مدويا فى أوربا كلها بعد عرضها وربما كانت أوبرا ألكستيس محاولة لاستغلال نجاحه السابق فى أوبرا أورفيوس والحقيقة أنه كان له ما أراد فلقد حققت الأوبرا نجاحا كبيرا كما أراد منذ أول عرض لها فى فيينا فى 26 ديسمبر وكان قد كتب كلماتها كاتب الأوبرات الإيطالى الكبير رينيرى دى كالزبيجى.