الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 62

لغة الجينات 62

«كلمة الحق» صعبة.. غالية.. خاصة فى الأوقات اللى كل حاجة فيها بقت رخيصة وأصبحت القيم مهانة.. «الكذب» أطلقوا عليه مجاملة، والنفاق شطارة، والتلون وتغيير المواقف والمبادئ بات كل لحظة وحسب الهوى والمصلحة.



«أصحاب الجينات الاصلية» فقط هم من يقدرون معنى «قول الحق» فى الظاهر بيخسروا أشياء كثيرة لإصرارهم على مواقفهم وعدم التلون.. وفى الباطن بيكسبوا أنفسهم بيتبعوا النور بداخلهم، بيكتب التاريخ أسماءهم وبينسى ويتجاهل كل المتلونين الكذابين.

«أصحاب الجينات الاصلية» فقط هم القادر على دفع ثمن كلمة الحق لا يعرفون الصمت على ظلم أو تعسف أو فساد.. لا يجيدون فن طأطأة الرأس والانحناء خوفا على منصب أو جاه أو أموال.

«اصحاب الجينات الخبيثة» يجيدون فن الكذب.. النفعية استرضاء الآخرين حتى لو كان ذلك على حساب كرامتهم.. فى الظاهر يخشون على مصالحهم ومكاسبهم وفى الباطن اصحاب جلد سميك ودم بارد.. يخسرون آدميتهم.. أدمنوا التنازلات.. يشيعون حالة من السلبية والأنانية..

«قول الحق» فى الظاهر دواء مُرّ لا يستطيع الكثيرون تناوله، وفى الباطن هو الصراط المستقيم.. طريق النجاة..هو ما يجعل حياتنا أفضل وأجمل وأكمل.

«عمنا وتاج راسنا» محمود السعدنى واحد من أصحاب الجينات الأصلية الذين ظلوا طوال حياتهم قابضين على الجمر، يقولون الحق حتى لو على أنفسهم، مستعدين دائما لدفع الثمن سواء كان منفى أو سجنا أو رفدا من العمل و تشريدا وإفلاسا ولف ودوران فى بلاد الله خلق الله.

عمنا «محمود السعدنى» فى الظاهر كاتب ساخر، وفى الباطن فيلسوف معاصر، له منظور خاص لكل ما حوله من بشر وشجر وحجر، أكثر خبيرا بالنفس البشرية، سبر أغوارها وفهم أعماقها.

عمنا محمود السعدنى امتلك جينات أصلية دفعته دائما لقول كلمة الحق حتى لو على رقبته..يجنى من وراء صدقه، وصراحته، وشجاعته وعزة قلمه الحنضل فيضحك ويسخر ويطلق نكاته اللاذعة.

فى الظاهر ظل عمنا محمود السعدنى يعيش حياته متهكماً من كل شىء محولاً لحظات الحزن الى إبتسامة، ولحظات العذاب الى نكتة، وفى الباطن كان السجن فى انتظاره دائما سواء فى عهد عبدالماصر الذى ظل مخلصا له طوال حياته ويفخر بناصريته حتى آخر ايام عمره أو فى عهد السادات الذى تعرف عليه فى بيت زكريا الحجاوى وكان وقتها هاربا من البوليس وتصادقا لكن لاناصريته ولا صداقته مع السادات منعته من قول كلمة الحق.

عمنا محمود السعدنى حين دخل المعتقل، حوّل سنوات حبسه إلى مواقف ساخرة. كان ضمن 150 معتقلاً على أبواب سجن القلعة بعد حملة إعتقال الشيوعين عام 1959، الجميع خائفون يجلسون القرفصاء فيعلق السعدني» أنا دلوقتى عرفت سر تمثال الكاتب الجالس القرفصاء عند قدماء المصريين، شكله كان مسجون زيّنا «... فقد كان أول المسجونين سخريةً من كل شىء، بداية من تعليمات إدارة مُعتقل القلعة و وصولاً الى النكات التى كان يحكيها طوال الليل لكل المسجونين معه.

عمنا «محمود السعدنى» ظل فى الظاهر شخصية فريدة ومتميزة بين أبناء جيله.. واحد من أهم رواد الكتابة الساخرة فى الصحافة العربية، وله الفضل فى تأسيس عدد كبير من الصحف داخل وخارج مصر.

ظلت كلمة الحق التى ينطق بها تطارده فيصبر ويضحك ويصر عليها حتى عندما إحتدم الخلاف بين الناصريين و بين الرئيس أنور السادات. وكانت ليلة القبض على من سماهم السادات مراكز القوى، وبينهم عمنا محمود السعدنى ليبقى فى السجن عامين.. ويفصل من «روز اليوسف»، و يمنع من دخول «صباح الخير»، التى كان رئيس تحريرها  ويمنع ظهور اسمه فى أى مطبوعة، حتى فى صفحات الوفيات!

وبعد سنتين، تم الإفراج عنه، فيحمل حقائب السفر، ويطوى ثمانى سنوات من عمره فى الغُربة والتشرد، والتى كان يقول ليها «بلاد تشيل وبلاد تحُط «

فى الظاهر كانت تجربة السجن المريرة قد تركت أثرا على صراحة وصدق السعدنى التى كلفته الكثير.. وفى الباطن ظل متمسكا بقول الحق.. قَصَد الدوحة، و عمل فى مجلة « العهد »، إلا أنه لم يتحمل غلظة رئيس تحريرها، ولم يتحمل رئيس التحرير صدق وصراحة ولسان السعدنى اللاذع فطوى أوراقه وحمل حقائبه ولجأ الى أبو ظبي، وهناك عمل فى « دار الوحدة »، لكنه لم يتحمل أيضا.. لم تتحمل روحه الحرة أن تكون مقيدة حتى لو تقاضى الملايين فهجر الخليج كله وذهب إلى بيروت، وانضم إلى كتاب جريدة «السفير».. ومنها إلى ليبيا والكويت.. لكن ظلت مأساته حاضرة «قول الحق» وعدم المداهنة أو المقايضة على كرامته وعزة نفسه حالت دائما إلى استقراره فرحل من جديد إلى لندن ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد أن تولى مبارك الحكم...وفى القصر الجمهورى بمصر الجديدة استقبله الرئيس مبارك، ليطوى بذلك صفحة طويلة من الصراع مع النظام فى مصر. و تفرغ لكتابة مذكراته. 

أحرص دائما على قول كلمة الحق فهى الباقية..فكلمة الحق يجب أن تقال مهما كانت الظروف والمغريات..واعلم أنك عندما تضع لجاما على فمك سيضعون سرجا على ظهرك.