د. قاسم عبده قاسم أستاذ تاريخ العصور الوسطى: الناس تقرأ التاريخ بحثًا عن عنصر المصلحة للمجتمع

حوار ـ خالد بيومى
الدكتور قاسم عبده قاسم، أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة الزقازيق، وهو يجمع فىِ كتاباته بين مهمة رجل التاريخ ومهمة رجل الفكر، يجمع فىِ بحوثه وأطروحاته بين الحيدة والنزاهة والموضوعية، وهو من مواليد القاهرة عام 1942، وعضو لجنة التاريخ بالمجلس الاعلى للثقافة، وعضو مجلس إدارة الجمعية المصرية التاريخية.. أثرى المكتبة العربية بأكثر من ثلاثين كتابًا ما بين مؤلف ومترجم منها: أهل الذمة فىِ مصر الوسطى، النيل والمجتمع المصرىِ فىِ عصر سلاطين المماليك، بين التاريخ والفلكلور، حضارة أوروبا العصور الوسطى، فكرة التاريخ عند المسلمين، الحروب الصليبية (جزءان) مترجم، الفتوح العربية الكبرى (مترجم)، المسلمون وأوروبا.. التطور التاريخىِ، عصر سللاطين المماليك، وغيرها.. التقيناه وكان هذا الحوار:
■ أنت أبرز الأكاديميين المتخصصين فىِ تاريخ العصور الوسطى، هذه الفترة التى عاشت أوروبا فىِ ظلام دامس طوال هذه الفترة، فىِ حين كانت الحضارة العربية مزدهرة، وبدورنا نطرح السؤال التقليدىِ الذىِ طرح قبل مائة عام وهو: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟
ـ السؤال يبدو بسيطًا لكنه ليس بسيطًا بالمرة، ولم يحدث على مدار التاريخ منذ فجر الإنسانية حتى الآن استمرت حضارة فىِ عنفوانها ونشاطها ولم تسقط، هذه قاعدة أساسية فىِ التاريخ والحضارة، وكثير من المؤرخين وعلماء الحضارات وفلاسفة التاريخ رصدوا دورات حياتية للحضارات القديمة من الميلاد حتى الموت، ومن الطبيعىِ أن تنتقل شعلة الحضارات القديمة فىِ المنطقة العربية إلى الحضارة العربية الإسلامية، ثم كان طبيعيًا أيضا أن تنتقل جذوة هذه الحضارة من العالم العربىِ الإسلامىِ عبر البحر المتوسط وعبر بلاد الشام زمن الحروب الصليبية وعبر الأندلس ( الفردوس المفقود) إلى أوروبا.. فالبحر المتوسط لم يكن عامل انفصال بين العالم العربىِ وأوروبا، بقدر ما كان جسرًا للتواصل بين العالمين فىِ الوقت الذىِ أدركت أوروبا فيه مدى تخلفها مقارنة بالعالم العربىِ الإسلامىِ والعالم البيزنطىِ.
لقد بدأت أوروبا مسيرتها نحو الإحياء بينما كانت بيزنطة فىِ سبيلها إلى السقوط والعالم العربىِ الإسلامىِ يترنح تحت الانقسامات السباسبة والتشرذم السياسىِ والحكام العسكريين الذين تسببوا فىِ تأخر الأمة، هنا نجد ما يشبه القانون فىِ التاريخ وهو أن الغزاة دائما أقل فىِ المستوى الحضارىِ من الذين يتعرضون للغزو وأنهم ينتصرون دائما بسبب فتوتهم وخشونتهم، فىِ المقابل تفسد الرفاهية أبناء الأمم المستقرة المتحضرة، وهذه أمور متكررة فىِ تاريخ الإنسانية وليست الحضارة العربية الإسلامية استثناء فىِ ذلك.
■ العالم العربىِ كان مطمعًا للغزاة والمستعمرين منذ فجر التاريخ وحتى اليوم ما تفسيرك لهذه النزعة الاستعمارية تجاه هذه المنطقة تحديدا؟
ـ هذه المنطقة مهبط الأديان السماوية الثلاثة، وتوجد بها مقدسات هذه الأديان، كما أن هذه المنطقة تقع فىِ قلب العالم القديم ولو نظرت إلى خريطة العالم القديم قبل اكتشاف الأمريكتين وأستراليا ستجد أن المنطقة العربية هىِ قلب العالم ومحط التقاء أوروبا وإفريقيا وآسيا، وجميع الهجرات القديمة والمهمة قصدت هذه المنطقة أو مرت بالقرب منها، وانظر أيضا فىِ قصص الأنبياء ستجد أنها تحركت فىِ المثلث ما بين شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر، وهو ما يعنىِ أن هذه المنطقة كانت مطروقة من الأقوام المهاجرة داخل هذه المنطقة مما دشن لها وحدة ثقافية وعرقية تكشف عنها اصول اللغات الموجودة فىِ هذه المنطقة منذ الأزل والآثار التىِ تم الكشف عنها تدل على الامتزاج والتفاعل والتنقل بين الأقوام التىِ سكنت هذه المنطقة. كما أن طرق المواصلات البرية والبحرية فىِ هذه المنطقة كانت فىِ غاية الأهمية منذ القدم ولا تزال كذلك رغم ثورة التكنولوجيا الحديثة.
■ هل هناك فرق بين التاريخ والموروث؟
ـ التاريخ جزء من الموروث، والموروث هو الجزء الحىِ الباقىِ من التاريخ، والتاريخ ليس ما نظنه مدونا فىِ صفحات الكتب أو الوثائق، وإنما ما يرثه الناس من العادات والتقاليد والنظام الأخلاقىِ والقيمىِ والنظرة إلى الكون والآخر، وهىِ أمور كلها تاريخية أبقت عليها المجتمعات واحتفظت بها لأنها تحتاجها فىِ حاضرها ومستقبلها.. فالتاريخ لا ينتمىِ للماضىِ سوى فىِ موضوعه فقط ولكنه علم يتعلق أساسا بالحاضر والمستقبل لأن الناس تقرأ التاريخ فىِ كل زمن قراءة مختلفة بحثًا عن عنصر المصلحة للمجتمع فىِ هذا التاريخ وطريقة تفسيره.
■ هل صحيح أن التاريخ يعيد نفسه.. ما مدى صحة هذه المقولة؟
ـ التاريخ لا يعيد نفسه، فالتاريخ كلمة ثلاثية الأبعاد: الأول: الإنسان سواء كان واعيًا بدوره أم لا، الثانىِ: المكان وهو المسرح الذىِ يجرىِ علىِ خشبته مجريات الفعل التاريخىِ، الثالث: الزمان وهو الإطار الذىِ تقع فيه الحادثة التاريخى، فالإنسان متغير، فالإنسان فىِ العصور الوسطى يختلف عن الإنسان فىِ العصر الحديث، وكذلك كل جيل يختلف عما قبله وعما بعده. والإنسان هو الفاعل الوحيد الذىِ يعىِ مرور الزمن ويستفيد منه وهذا سبب اختلاف الاجيال، لكن الكائنات الأخرىِ تتسم طبيعتها بالثبات وعدم التغير، فأسراب البط تظل كما هىِ، ولا تختلف فىِ صفاتها إلا إذا تدخل الإنسان فىِ تغيير صفاتها الوراثية من خلال علم الجينات والهندسة الوراثية، كذلك الحيوان حينما يتم تدريبه لا يستطيع نقل خبرته إلى بنىِ جنسه، لكن الإنسان يستفيد من التراث الموجود بين يديه، بينما الزمن عملية يغلب عليها صيرورة التغيير، والعنصر الثابت نسبيًا فىِ العملية التاريخية هو المكان رغم حدوث بعض التغييرات عليه فلا يستطيع أحد أن ينقل مصر إلى قلب أوروبا أو شمال أمريكا مثلا، ولكىِ تعيد التاريخ لابد من إعادة العناصر الثلاثة السابقة وهذا غير ممكن.
■ برأيك.. كيف يمكن قراءة التاريخ قراءة نقدية؟
ـ يوجد مبدأ عند المشتغلين بالتاريخ، مفاده أنه لا يوجد مصدر موثوق به وبالتالىِ لا بد من قراءة عدة مصادر تاريخية قراءة نقدية ومقارنتها بالمصادر الأخرى والبحث عن المصادر المشتركة فىِ المصادر والآثار على اختلاف أنواعها وليس الاعتماد على الوثائق المكتوبة فقط مثل الملابس والتراث الشفاهىِ وأدوات الزينة، فمثلا عندما تتجول فىِ القاهرة القديمة، سوف تعتقد أن سلاطين المماليك الذين شيدوا مجموعة ضخمة من المساجد والأسبلة كانوا أتقياء ومتدينيين، وهذا خطأ كبير وعندما تقرأ مصادر التاريخ فىِ الفترة المملوكية ستجد ان هذه المنشآت الدينية عملية مظهرية بحتة، وأحد المصادر التاريخية يصف المماليك بأنهم (ليس فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأخبث من ذئب ) والحوادث المتنوعة عنهم تؤكد صحة هذه المقولة إلى حد كبير، وقياسًا على ذلك ستجد أحد المؤرخين عندما يصف حركة المرور فىِ مصر خلال الفترة الحلية سيقول كانت حركة المرور فىِ الشوارع جيدة، ولكن اذا تصفحنا مصدر تاريخىِ آخر كمحاضر أقسام الشرطة وصفحات الحوادث بالصحف والمجلات سنجد الحقيقة مغايرة تماما.
هذا معناه فىِ النهاية ألا نصدق مصدرًا دون أن نفحصه فىِ ضوء المصادر الأخرى.
■ ترجمت مؤخرا كتاب (الفتوح العربية الكبرى.. كيف غير الإسلام العالم الذىِ نعيش فيه).. لماذا؟
ـ مؤلف هذا الكتاب المؤرخ الاسكتلندىِ هيبو كنيدىِ، وهو يفسر أسباب نجاح حركة الفتوحات العربية، بأن المسلمين الأوائل طبقوا مبدأ (عش ودع الآخر يعيش) ففىِ معظم البلدان التىِ فتحها المسلمون قاموا ببناء مدن جديدة خاصة بهم، لكىِ يقيموا بها، وتركوا أهالىِ البلاد المفتوحة فىِ مدنهم، ولم يفرضوا دينهم الجديد على الناس، وأن الجيوش العربية التىِ خرجت فىِ بداية حركة الفتوح العربية الإسلامية كانت أعدادها متواضعة، حيث تم فتح مصر بجيش قوامه خمسة آلاف جندىِ وأقصى عدد وصل إليه الجيش الإسلامىِ عشرون ألف جندىِ، ثم تبعهم بعد فترة خمسة آلاف آخرين، وأن أهالى البلدان المفتوحة هم الذين استأنفوا حركة الفتوحات التالية، فالمصريون هم الذين فتحوا شمال إفريقيا ثم استأنف البربر حركة الفتوحات الإسلامية فىِ الأندلس بقيادة طارق بن زياد، ولم يفرضوا على أهالىِ البلاد المفتوحة شيئًا ولم يستولوا على ممتلكاتهم، كذلك الانضباط الشديد والطاعة التامة للقائد، فالقائد العظيم خالد بن الوليد الذىِ لقب بسيف الله المسلول استجاب لرغبة خليفة المسلمين عمر ابن الخطاب فىِ عزله، وتولية أبا عبيدة بن الجراح مكانه، ونفذ خالد بين الوليد الأمر على الفور، ووصفهم كنيدىِ بأنهم كانوا أصحاب دين حقيقىِ.
■ لماذا أصر الخليفة عمر بن الخطاب على تسلم مفاتيح مدينة القدس بنفسه؟
لعدة أسباب من أبرزها، أن القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين عند المسلمين، والسبب الثانىِ أن صفرونيوس أسقف القدس، قال إنه لن يسلم مفاتيح المدينة إلا لأمير المؤمنين نفسه، وادعى أنه رأى مناما يأمره بذلك، والسبب الثالث أن عمر بن الخطاب لم يشأ لهذه المدينة المقدسة أن ينالها الدمار من جراء الاقتحام العسكرىِ، على الرغم من ارتفاع الكفاءة القتالية للجيوش الإسلامية فىِ هذه الفترة، وعندما قدم المدينة تصرف باعتباره حاكما مسلما حقيقيا وكان يرتدىِ ثيابا مهلهلة ورثة ورفض ارتداء الملابس الجديدة التىِ أعدها له صفرونيوس أسقف القدس وقام بغسل ملابسه وانتظر حتى تجف وقام بارتدائها مرة أخرى، ورفض أن يصلىِ فىِ كنيسة القيامة حتى لا يتخذها المسلمون مسجدا من بعده وأمر بحفظ الاملاك المدنية والدينية للمسيحيين فىِ القدس، وأمنهم فىِ أماكنهم بشرط ألا يتعاونوا مع العدو على ضرب المسلمين.
■ أصدرت كتابا بعنوان (الرواية التاريخية).. برأيك ما هىِ الحدود التىِ يجب على الروائىِ ألا يتخطاها عند استلهامه للتاريخ؟
ـ الرواية التاريخية نمط ىمهم من أنماط الكتابة فىِ كل الثقافات والحضارات، وهىِ تقوم على رواية حدث تاريخىِ بإسقاطات معاصرة لأسباب سياسية أو لضمان الأمن الشخصىِ للكاتب، وقد يستلهم الكاتب المعاصر التاريخ لإعادة بعث الفخر مثل الحكايات التىِ ترويها الجدات لأبنائهن وعائلاتهن، والروايات التىِ اشتهر بها العرب قبل الإسلام فيما يعرف بأيام العرب ومثلما يجتمع فىِ ذلك الحقيقة والخيال، يجتمع أيضا في الرواية التاريخية الحقيقة والخيال.
وفىِ الرواية التاريخية لا يجب أن يجور الصدق التاريخىِ على الصدق الفنىِ والعكس صحيح أيضا، فما دام الفنان أو الكاتب اختار التاريخ إطارًا لعمله فعليه أن يلتزم بالحقائق التاريخية، فلا يخترع حادثة أو يغير شخصية، أو ينقل حدث ما من مسرح جغرافىِ إلى مسرح جغرافىِ آخر بحجة الحرية الفنية، ولكنه يستطيع اختراع شخصيات فرعية فىِ القصص القديمة والقصص ذات الطبيعة الشخصية ما يشاء دون أن يغير فىِ المجرى العام للأحداث، وإلا فقد كان عليه ألا يلزم نفسه بالإطار التاريخىِ.
■ برأيك.. كيف يمكن التعامل بذكاء مع ظاهرة العولمة من خلال ثوابت عربية إسلامية وفقهية وتشريعية وثقافية وسياسية بأقصى درجات التاريخ بدلا من الدخول فىِ صراع معها؟
ـ لا يوجد شىء اسمه العولمة سوى فىِ مجال التجارة وهيمنة الشركات متخطية الجنسيات، ولا توجد قوة على ظهر الأرض تستطيع إجبارك على التخلى عن ثوابتك الدينية والحضارية سواء وفىِ اللبس أو الزينة او العبادة وعادات الطعام والاهتمام بثقافتك المحلية، الخ. ولكن العولمة تتجسد فىِ الهيمنة الاقتصادية للإمبريالية الأمريكية وهىِ بالمناسبة قد فشلت بدليل أن أمريكا مديونة إلى الصين (إحدى بلدان الشرق) لان الاقتصاد الامريكىِ يقوم على المضاربة وبيع الوهم وآليات السوق، فىِ حين أن الاقتصاد الصينىِ والألمانىِ واليابانىِ قوىِ لانها تقوم على انتاج حقيقىِ، ولا يوجد اىِ تعارض فىِ أن يعيش الإنسان فىِ عالمين مختلفين: عالم المادة الذىِ يعبر عن النظرة العلمية للكون أىِ عالم الظواهر الحسية التىِ يدرسها العلم، وعالم الروح الذىِ يعبر عن الحياة الروحية والدينية للإنسان والتىِ تظهر فىِ الفن والدين والفلسفة.
■ أنت تجمع بين مهمة رجل التاريخ ومهمة المفكر.. كيف تجد الفارق بين الفكر الشرقىِ والفكر الغربىِ؟
ـ هناك عناصر مشتركة بين كل من الفكر الشرقىِ والفكر الغربىِ لا بد وأن تؤكد لنا الاعتقاد الذىِ كثيرا ما أنكر أن العقلية البشرية فىِ أىِ مكان واحدة ومتشابهة، أو على الأقل تعمل بالطريقة نفسها ولهذا يجب أن تغلب المغالاة فىِ الفوارق، والقول بأن فلاحا من دلتا النيل فىِ مصر ومزارعا فىِ ميدل ويست بالولايات المتحدة الأمريكية، لا بد أن يتبعا مناهج منطقية مختلفة، قول خاطئ، بل لا يمكن تصوره، برغم أنه من الواضح أنهما يبدآن من بديهيات مختلفة جدا. إن ما يضفىِ على دراسة الفكر الشرقىِ سحره الخاص به هو حقيقة لا يقتصر على أنه أعرق من الفكر الغربىِ، بل إنه يعبر عن استمرار فىِ مدى زمنىِ أبعد، وفىِ استعراضنا لتاريخ الفكر البشرىِ الطويل، نلاحظ أن البحث الفلسفىِ الغربىِ ما هو إلا مجرد فرع – برغم ازدهاره – من شجرة العائلة الشرقية، تماما كما أن أوروبا كما جاء فىِ عبارة بول فاليرىِ (ما هىِ إلا مجرد قبعة دقيقة ناتئة من آسيا). وهذا بلا شك هو السبب فىِ أن المفكرين الأوربيين أمثال شيلنج وشوبنهاور وجوته وتولستوىِ قد أدهشهم، عند بدء تعرفهم على الفلسفة الشرقية عمقها المذهل، وهىِ بلا شك عميقة، وعمقها هو ذلك العمق الناجم عن جذورها فىِ الماضىِ السحيق أىِ منذ فجر البشرية وبداية التفكير الإنسانىِ.