الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
‎لغة الجينات 64

‎لغة الجينات 64

‎أبسط تعريف للإنسان أنه «حيوان ناطق».. فى الظاهر «الكلمة» هى ما تميزنا عن الحيوانات.. وفى الباطن «الكلمة» هى أصل الوجود.. هى الشرف.. النور.. مفتاح البهجة والسعادة والأمل والتفاؤل لأصحاب الجينات الأصلية ممن يدركون شرف الكلمة وقيمتها.



‎«الكلمة» فى الوقت نفسه هى الكاشفة لأصحاب الجينات الخبيثة.. للنفس العدوانية الى سيطر عليها الغرور والحماقة... فى الظاهر قد تساعدك على تحقيق منافع شخصية تافهة.. نفوذ أو فلوس.. وفى الباطن تضر صاحبها، وتضر ناقلها، وتضر متلقيها، وتضر كل من نطق بها، وتسيء لكل سامع لها.. وقتها هى «كلمة سوء» لا خير فيها.

«الكلمة » الطيبة رزق.. جائزة كبيرة لا يقدرها إلا أصحاب الجينات الأصلية.. أما أصحاب الجينات الخبيثة فهم مثل حاشية الملك الذى خدعه خياط ملابسه وأوهمه فى الظاهر أنه سيصنع له ثوبا لا يراه إلا الأذكياء.. وأن الثوب الجديد رغم أنه غال جدا لكنه هيكشف له الأغبياء فى القصر والبلد.. وفى الباطن كان الرجل الخبيث يعلم جيدا أن الكل سيتصنع الذكاء ولن يعترف أحد أن الملك عار بلا ملابس حتى لا يتهموه بالغباء.!

«عبد الرحمن الشرقاوي» واحد من أصحاب الجينات الأصلية الذين عرفوا قيمة وقدر «الكلمة « وعاش مخلصا لها طوال حياته رغم كل المصاعب والأزمات التى طاردته بسبب «الكلمة»

«الشرقاوى» فى الظاهر شاعر وأديب وصحفى ومؤلف مسرحى فذ أو روائى متميز، وفى الباطن كان باحثا ومفكرا ومناضلا وثائرا على كل الأفكار الرجعية... أثارت كتبه وتناوله المختلف والمغاير حفيظة كل طيور الظلام على مر العصور ولدرجة أنه عندما قدم سيرة النبى محمد عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام، غضب عدد من علماء الدين، خصوصا كتابه «محمد رسول الحرية» الذى صدرت طبعته الأولى عام 1962، وتم نشره على حلقات فى جريدة المساء، مما فتح أبواب الهجوم الحاد عليه، الذى وصل لدرجة اتهام البعض له بالكفر... ووجهت للشرقاوى الكثير من التهم لدرجة مطالبة بعض المتشددين بإعدامه وإحراق كتبه.

«الشرقاوى» فى الظاهر شخصية مهمة ومؤثرة صحفياً ومسرحياً وسينمائياً.. وفى الباطن كان هو الباحث الجاد والمجدد.. ساهمت كتبه فى تحرير العقل العربى وكانت دوما تنحاز للإنسان والإنسانية.

‎«الشرقاوى» فى الظاهر أحد أبرز الأدباء الذين عملوا بالصحافة ووصلوا إلى أرفع مناصبها، رئاسة مجلس إدارة روزاليوسف.. وفى الباطن  تضاعف تأثيره على المناخ السياسى والثقافى والفكرى فى مصر والعالم العربى من خلال دفاعه عن الديمقراطية والعدل وإعلاء قيمة الكلمة.

‎عندما عرض عليه الرئيس السادات أن يتولى رئاسة مجلس إدارة روزاليوسف.. فى الظاهر اشترط عليه كى يقبل المنصب أن يكتب ما يريد بكل حرية، وفى الباطن كان الشرط أن تظل للكلمة قدسيتها واحترامها.. ووافق بعد ان اخذ كلمة شرف من السادات أن يظل يكتب بحرية هو وكل من يعمل فى روزاليوسف.. فى الظاهر كان السادات يستشهد بكتاباته عندما يود أن يتكلم عن حرية الصحافة، وفى الباطن لم يدم ذلك طويلا فعندما وقعت أحداث 18 و19 يناير 1977 أطلق عليها السادات انتفاضة الحرامية بينما أطلق عليها صحفيو روزاليوسف انتفاضة الخبز، معلنين انحيازهم للشارع والناس كما كانوا دائما.. وقتها طلب ممدوح سالم من عبد الرحمن الشرقاوى فصل بعض المحررين بسبب موقفهم من هذه الانتفاضة.. ورفض الشرقاوى وقدم نفسه فداء لزملائه فى روزاليوسف.. عرض على ممدوح سالم أن يتحمل وحده المسئولية ويقدم استقالته بشرط عدم التعرض لأى من صحفيي المؤسسة وألا يتم القبض عليهم.. وقد كان.. رحل بهدوء عن المؤسسة لتبقى قدسية الكلمة وشرفها.

‎«الكلمة» والإصرار عليها كانت السبب فى سجن عبدالرحمن الشرقاوى بقرار من السادات.. وكانت السبب ايضا فى صداقة امتدت سنوات طويلة.. وقتها وقع بينهما خلاف حينما كتب الشرقاوى مقالا يرد فيه على تحذيرات السادات من الشيوعية فى مقال له بجريدة الجمهورية والتى كان السادات يرأس مجلس إدارتها.. وعندما استدعاه وسأله انت بتنتقد اللى بكتبه.. رد الشرقاوى بأريحية شديدة: «هو حضرتك بتكتب « وفهم السادات مغزى الكلمة فأمر بسجنه ودخل السجن الحربى لمدة 24 ساعة بعدها ذهب له السادات وأخرجه وتناول إفطاره معه وصارا أصدقاء.

‎حياة الشرقاوى وكتاباته وكلمته ظلت ثورة مستمرة ضد الظلم والطغيان، فتعرض للسجن أيام دكتاتورية إسماعيل صدقى عندما قبض عليه ضمن مائة شخصية منهم محمد مندور، وعبد العزيز فهمى عام 1947 ووجهوا له تهمة محاربة الإنجليز.

‎»الكلمة « نفسها كانت سر الخلاف بينه وبين الأزهر.. والذى وافق فى البداية على مسرحيته الأشهر «الحسين ثائرا» ثم عاد وفى الظاهر اعترضوا عليها من باب أن العشرة المبشرين بالجنة لايجوز تجسيدهم على المسرح.. وفى الباطن كان الخلاف مع شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود، هو السبب حين كتب شيخ الأزهر مقالا فى مجلة «آخر ساعة» قال فيه: «ومما يستلفت النظر أن العشرة المبشرين بالجنة كلهم من الأغنياء»، ورد عليه الشرقاوى بمقال عنوانه: «لا يا صاحب الفضيلة» جاء فيها أن الأغنياء لا يشترون الجنة بأموالهم.

‎ألم أقل لكم إن للكلمة شرفا.. وأنها هى الشرف.. النور.. وأن لها ضريبة لا بد ان تدفع.. ولا يقدر عليها إلا أصحاب الجينات الأصلية.