الخميس 11 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الحضارة العبرانية بين الحقيقة والخيال

الحضارة العبرانية بين الحقيقة والخيال

فى تقرير لجامعة كمبردج اشترك فيه العديد من الأكاديميين النبهاء صدر فى عام 1988 عرف بتقرير الحضارات العالمية وضعت الحضارة العربية كأحد أهم ثلاث حضارات هى المكون الأساسى لتاريخ العالم لكن الحقيقة لقد وضعت تحت بند الحضارة العربية حضارات كثيرة تابعة اعتبرها التقرير أحد مقومات الحضارة العربية، ومن بينهم الحضارة العبرانية وعلى الرغم من تحفظنا على اعتبار أن هناك مصطلحا يمكن أن يطلق بكل أريحية بالحضارة العبراينة على الرغم من عدم قبولنا الكامل بأن هناك حضارة عبرانية مستقلة إلا أننا لا نعرف من أى مصدر ومن أى تحليل تاريخى أستقى التقرير أن الحضارة العبرانية هى أحد ركائز الحضارة العربية؟.



 فى البداية علينا أن نؤكد أن هذا يناقض أحد أهم أساسيات الفكر الغربى فى معالجة كلمة حضارة فكل الدراسات الغربية منذ العصور الوسطى تعتبر أن الفكر العبرانى بما فيه العهد القديم هو الأساس والجذور لحضارة الغرب وعلى الرغم من أن مفكرين عظماء مثل هنرى بريستيد أرجعوا الأسس الخلاقة فى الفكر العبرانى للحضارة الفرعونية ووشائجها المصرية منذ ما قبل انتقال العبرانيين ممثلين فى الأسباط – اى أبناء سيدنا يعقوب – انتقالهم من البادية إلى الحضر للعيش فى كنف عزيز مصر الذى لم يكن إلا سيدنا يوسف علية السلام الأخ الأصغر الذى تركوه فى البئر ونقل إلى مصر إلى آخر الحكاية المعروفة، لم يكن هناك ما يعرف بالحضارة أو الفكر أو أى مظاهر المدنية عند العبرانين لكنه بعد مكوثهم أى الأسباط عدة قرون فى مصر حتى ظهور سيدنا موسى عليه السلام، وتعترف الكتب المقدسة والتاريخ بأن العبرانيين – والمقصود بهم هنا الأسباط بالتحديد أبناء سيدنا يعقوب المدعو بإسرائيل بعد بعثته – لم يكن العبرانيون غير قبائل تعيش فى البداوة ونص القرآن هنا صريح حيث يقول يوسف بعد أن جمع الله شمله بإخوته أن الله أتى بهم من البدو اى من البادية، حيث كانوا لا يمارسون الزراعة والدليل على ذلك أنهم كانوا يمارسون التجارة مع مصر ويذهبون للكيل أى لمقايضة الغلة بمنتجات كانوا يصنعونها ونحن نعرف أن الزراعة أهم ركائز الاستقرار الحضارى وتكوين مجتمعات، لذا يقوم الدليل القاطع على أن العبرانيين فى أساسهم بدوا لا يملكون حضارة واستقرار، ومن ثم لا يسعنا إلا أن نقبل فرضية هنرى بريستيد الذى أكدها فى كتابه فجر الضمير أن الحضارة العبرانية التى يتمسح فيها الغرب، ويجعلها أهم ركائز حضارته وجذوره ما هى إلا نقل من إبداع الحضارة المصرية القديمة والتى لازالت تقف أمامنا منجزاتها بما لا يقطع الشك أنها كانت ملهمة لحضارات كثيرة.

أذا كيف  يتخبط الغرب مرة فى الإخفاق فى أصل ما عرف بالحضارة العبرانية ومرة أخرى عندما يجعلها أحد أهم جذور الحضارة العربية ؟ الحقيقة أن هذه الفرضية مردود عليها ودعنا نفض عن أذهاننا أن كل دراسة وتشريح لتاريخنا الشرقى كان بغرض دحضه وتفكيكه وكان محاولة لإعلاء شأن الحضارة العبرانية المزعومة على شأن كل الحضارات الشرقية، الحقيقة أن العديد من المؤرخين أنصفوا التاريخ وكان غرضهم فقط هو الوصول للحقيقة ولا ينفى هذا أن هناك عددا أكبر من الأقلام قد تناولت التاريخ بالتحوير لصالح الفكرة العبرانية ويبدو ذلك جليا بداية من النصف الأول من القرن ال19 فى مرحلة اشتعال الحمية ليهود أوروبا ومحاولتهم الدائمة لخلق فكرة الوطن المقدس والعودة لجبل صهيون والذى كان هو لب الفكر الصهيونى فيما بعد 

لكن علينا أن ندرك أن المحاولة والفكرة قديمة تعود للحملة الصليبية الأولى الذى قامت قبلها حملة تطهيرية لليهود فى أوروبا وتقول الحوليات فى هذه الفترة أن بطرس الناسك المحرض الأول للحملة الصليبية الأولى وقف يخطب خطبته الشهيرة عن الشرق وفى نهاية خطبته قال (وقبل أن نذهب لقتال أعداء الله فى أورشليم علينا قتل أعداء الله هنا وأشار بيده نحو كنيس يهودى) وبعد هذه الخطبة الحماسية توجه الكثير من أتباعه لقتال اليهود العزل وبالفعل اشتعلت نار الفتنة وانتقلت من إقليم لإقليم ويقال إن فى ظرف شهرين قُتل أكثر من 30 الف يهودى وهذا بشهادة مؤرخين مسيحيين فى هذه الفترة، ومنذئذ واليهود يعتبرون أنفسهم هدفا سهلا للقلاقل والثورات التى يقوم بها مسيحيو أوروبا لذا عاشوا فى شبه عزلة فيما يعرف بالجيتو – أو حى اليهود – على الرغم من أنهم فى الشرق وبالتحديد فى العالم الإسلامى عاشوا فى أمان وفى تكريم وعزة ربما لم يعرفها أهل البلاد أنفسهم، ما يهمنا هنا أن منذ هذه الواقعة كانت العقول اليهودية تنحوا ناحية التوحد والبحث عن حل يسهل لهم أن ينهوا زمن الشتات أو الدياسبورا كما اصطلح على تسميته. والخلاصة أن القول بأن الحضارة العبرانية أحد دعائم الحضارة العربية هو كلام مرسل ليس له اى دليل بل ويسهل دحضه وتفنيده بكل سهولة كما تقدم وعلينا أن ندرك دائما أن ما نتركه غير مناقش وغير مردود عليه فى هذه النظريات يؤخذ بعد ذلك حجة علينا ويتحول من باب الجدل لباب المسلمات التى يستحيل بعد ذلك دحضدها لأنها تقر فى الأذهان، وكما لفقت الحضارة الأوربية الكثير من الأقاويل والمحاجات التى غفل عنها العرب أصبحت فيما بعد تستخدم أسلحة ضدنا مثل الجنس العبرانى والعبقرية العبرانية والتفوق اليهودى وكل هذه المقولات التى كانت كلاما مرسلا ثم أصبحت نظريات قابلة للتصديق ثم أصبحت مسلمات استحال على أجيال متعاقبة زعزعتها من الأذهان.

لذا علينا متابعة الفكر الغربى ومراجعة نظرياته أولا بأول لأنه ما من وقت غفلنا فيه عن وضعية التاريخ ونقده وتبويبه وتصحيحه إلا وكان لنا من هذه الغفلة كبوة وسقطة ابتلعت أجيالا وما الاحتلال الصهيونى لأرض فلسطين إلا أحد صور هذه السقطات فلو كان الفكر العربى ناضجا فى فترات التحضير التى سبقت سرقة الأرض وتهويدها لكانت أمور كثر تغيرت وكانت دولة إسرائيل اليوم فى صحراء البرازيل أو الأرجنتين كما خطط لها من قبل وقبل أن تستخدم فكرة بعل شام توف والصهيونية الأولى فى الأرض المقدسة ذريعة لسرقة الأرض العربية فيما عرف بالتخطيط الممنهج لصهينة فلسطين.