السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«جورجياديس» والبحث عن المدن المفقودة

«جورجياديس» والبحث عن المدن المفقودة

لم يعد هناك شك أن الفن التشكيلى فى كثير من جوانبه يعيد بناء العالم من ذاكرة الفنان على لوح الرسم ليتواصل بصورة عالمه الخاص جدا مع المتلقى.. وكلما كانت التجربة عند الفنان أكثر وضوحا وتسير وفق خطه ومنهج كلما كانت سهلة الهضم على المتلقى فيستطيع أن يرى جماليتها بغض النظر عن اكتشافه لكامل منهج الفنان أو خطته التى يسير عليها... ولعل من أهم ما يميز هذا الطرح فى الفن عامة والفن التشكيلى خاصة هو أن يتماس هذا الطرح الخاص بالفنان مع نوستالجيا تاريخية وجغرافية.. هناك العديد من الفنانين قد أخذوا على عاتقهم إفراز ما يعرف بإعادة تكوين العالم من خلال ذاكرة تستحضر الأماكن والتواريخ وربما الأشخاص فى إطار متسق يأخذ المتلقى لعدة ممرات أولهما البهجة وثانيهما مشاركة الفنان عوالمه وثالثهما أعادة تقبل التاريخ من حيث الرؤية المكانية والأسلوبية.



الحقيقة أن فنانا اليونانى الكبير أندرياس جورجياديس يعتبر من الفنانين الذين يبدعون وفقا لهذا الأطار وعلى الرغم من أن جورجياديس ينتمى لمدرسة فنيه قد يكون لها خطوطها العريضة لكن جورجياديس تيمه متفرده بين فنانين عصره سواء فى الواقعية أو الانطباعية الحديثة أو حتى الرمزية.. فنحن نستطيع أن نكتشف عالما من الترميز فى أعماله إذا اعتبرنا ان اللقطة المكانية والتكوين البنائى هو نوع من الترميز للتعبير عن حقبة ما أو عالم اندثر لكنه لازال يعيش فى عقل وقلب جورجياديس وهذه هى النقطة التى يجب أن نمر من خلالها إلى عوالم جورجياديس الأكثر رحابة وجزالة.

فى سابقة تاريخية لن نستطيع تزيفيها تعتبر الإمبراطورية العثمانية العتيدة والتى قامت على فعل اللصوصية بشكل صريح دون مواربة هذه اللصوصية تجعلنا نطلق على هذه الحضارة الزائفة (لصوص الحضارات)  فلقد بدأت هذه القبيلة التى اتت من البلقان تتغذى على الأراضى اليونانية منذ بدايتها بزعم الخلافة الأسلامية وبدأ فى ابتلاع معظم أقاليم اليونان الشهيرة التى اغتصبتها وهجرت سكانها اليونايين الأصليين وغيرت اسمها لأزمير، وأصبح العالم اليونانى الأصيل فى خضم 400 عام يرزح فيما يعرف بـ(الروميلى) أى الحكم التركى للأقاليم اليونانية وضاعت معظم اليونان.. لكن ما علاقة هذا بعوالم أندرياس جورجيادس فنان اليونان النابه؟ 

لقد وضع جورجياديس خطه لفنه ليعيد خلق هذا العالم اليونانى – أو قل الهللينى – المفقود فنجد أن معارضة هى استقراء وأستعادة للمدن اليونانية القديمة بل وكان هذا أيضا حافزا كبيرا على إعادة اكتشاف مدن أخرى شكلت فيها الثقافة والوجود اليونانى قاسما كوزموبوليتانيا مشتركا مع ثقافات أخرى مثل الإسكندرية والقاهرة.

فى معرضة الشهير – كونيستانتينوبوليس (أستانبول) يركز جورجياديس على تصوير أطلال الروح المكانية للحضارات الهلينية والبيزنطية على التعاقب مثل دير يوانيس وآيا صوفيا وكنيسة المخلص وقصر فوكولينتوس لكنه أيضا لا يترك جماليات عصور لاحقة فيصور مسجد محمد امين آغا وبرج جالاتا والسوق الكبير.

لكن يظل العالم الكوزموبوليتانى ممثلا فى الإسكندرية قاسما رئيسيا فى أعمال أندرياس جورجياديس ومن ثم بهره عالم الأديب الكبير لورانس داريل والذى كتب رباعية من اربع روايات عن الإسكندرية فى موضوع متصل صور فيها الإسكندرية ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية حيث كان يعيش فى قصر شهير فى الإسكندرية ويعتبر عملة وثيقه أدبية وتاريخية مهمه، ومن ثم التقط جورجياديس الروح المكانية من رباعية داريل وبدأ فى أنجاز أحد اهم معارضة وأضخمها والذى جاب به مدنا كثيرة فقام بعرض معرضه فى دار فى أيانوس جاليرى فى أثينا 2014 ثم فى قصر الأمير طاز بالقاهرة عام 2014 وفى مكتبة الأسكندرية فى نفس العالم ، ثم عرضه بالمركز الثقافى الهللينى فى لندن عام 2015، ثم عرضه فى منزل محمد على فى كافالا، ثم أنجز معرضا آخر عن مصر أطلق عليه (عبر النيل) عرض فى السفارة المصرية فى لندن.  وكان أيضا معرضه – كونستانتينوبوليس (استانبول) – من المعارض التى جاب بها مدنا كثيرة.

نستطيع أن ننسب جورجياديس بكل سهولة لمدرسة الانطباعية الحديثة والتى تتخلى عن ضربات الفرشاه الدائرية والأكثر تهويما ولا تأبه بثقل الألوان ومجموعاتها الفاتحة، بل تعتمد هذه المدرسة الحديثة الألوان الباردة والأكثر قتامةفنجد ان أعمال جورجياديس تركز على اللون الرمادى والبنفسجى الداكن، كما تعتبر الكتلة البنائية والمعمارية أحد أهم دعائم هذه المدرسة كما عند جورجياديس، ومع انها تقترب كثيرا إلى مدرسة المائيات الباريسية والمهتمة بالطرح المعمارى وتستخدم الأحبار على ورق الألياف  لكنها فى مجملها انطباعية حديثة. 

ولد أندرياس جورجياديسفى مدينة سالونيك عام 1972 ودرس فى مدرسة الفنون ثم حصل على منحه لدراسة الفن التشكيلى فى فرنسا ثم عاد ليمارس نشاطه فى أثينا، ومن أشهر معارضه رباعية الإسكندرية، كريت، كونيستانتينوبولوس – عبر النيل – المدن غير المرئية.