الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 73

لغة الجينات 73

لم أفهم الإشارة.. ولم أنتبه للصدفة القدرية إلا بعد أن انتهيت من الكتابة.. هذا المقال رقم 73 فى سلسلة مقالاتى عن الظاهر والباطن.. لم أرتب أن أكتب عن «الشيخ سالم الهرش» رمز الرجولة والشهامة.. لكنها الصدفة القدرية التى جعلتنى اختاره  فى ذكرى النصر ليكون هو «الرجل» ليكون صاحب الجينات الأصلية.. فكلمته كانت شرف.. وموقفه  عز وشرف.. فمن لا كلمة له ولاموقف له.. لارجولة له . 



«الرجولة»  سهلة عند أصحاب الجينات الأصلية.. مستحيلة على أصحاب الجينات الخبيثة.. فهى لاتشترى بالمنصب والجاه ولا بأموال الدنيا.

«الرجولة» فى الظاهر هيبة ووقار.. الشهامة والمروءة فى أجلى معانيها.. قول الحق والجهر به ولا تأخذك فيه لومة لائم... وفى الباطن هى ثمرة حكمة العقل وقوة الإيمان وطهارة القلب، ليست لأى أحد ولا تليق بأى أحد.

«الشيخ سالم الهرش» رمز للجينات الأصلية وللرجولة.. سجل حروف اسمه بحروف من نور... فى الظاهر هو شيخ قبيلة «البياضة» رجل ستينى شيخ بسيط يجلس فى خيمته وقت الظهيرة ليحتمى بها من حر الظهيرة.. وفى الباطن.. محارب قوى.. عينا صقر ترصد كل ما يدور.. يتشبث بالأرض.. يواجه مدافع العدو الصهيونى بصدر عار.. قبيلته كلها تعمل مع الجيش المصرى.

«الشيخ سالم الهرش» اختاره القدر ليوجه الصفعة المدوية التى  علَمت على وجه الصهيونية  للأبد.

بعد احتلال سيناء عام 1967.. حاول الصهاينة بكل الطرق استمالة مشايخ القبائل وعلى رأسهم شيخ مشايخ سيناء «سالم الهرش» .. قدموا لهم الهدايا والأموال وعملوا على توفير حياة أفضل للأهالى فى محاولة لاستمالتهم.. فى الظاهر استجاب أهالى سيناء للخطة.. وفى الباطن كان التواصل ليل نهار مع المخابرات المصرية.

فى الظاهر كانت محاولة الصهاينة استمالة أهالى سيناء نابعة من رغبة فى البقاء للأبد على أرض سيناء.. وإيهام الجميع أن الأمر انتهى والعيش والتعايش معهم هو السبيل الوحيد.. وفى الباطن كان التقارب لتنفيذ خطة فصل سيناء عن مصر وإعلانها دولة مستقلة.. فوقتها فقط ستصير لهم للأبد.

فى عام 1968 قدم جهاز المخابرات العسكرية الصهيونى «أمان» تقريرًا سريًا للجنرال موشى ديان وزير دفاع الكيان الصهيونى يؤكد أن  عناصر الجهاز اتفقت مع رؤساء ومشايخ العشائر والقبائل والعوائل فى سيناء على التجمع فى منطقة الحسنة فى القطاع الأوسط من سيناء فى شكل مؤتمر شعبى حاشد تدعى إليه وسائل الإعلام العالمية والمحلية لتسجيل وقائع هذا المؤتمر.

الذى سيعلن فيه المشايخ الانفصال عن مصر وأن الوقت قد حان ليكون خير سيناء لأهالى سيناء... وبالفعل التقى ديان ومعه جولدا مائير وزير الخارجية وقتها بشيوخ القبائل وعلى رأسهم الشيخ سالم الهرش للاتفاق على كل التفاصيل. 

فى الظاهر كان الاتفاق على «أن يقوم مشايخ القبائل الواحد تلو الآخر بالخطابة فى الجموع المحتشدة من البدو ووسائل الإعلام مبررًا وموضحًا أن شبه جزيرة سيناء منطقة غنية بكل عناصر ومقومات الحياة، فيمكن الزراعة فى الكثير من مناطقها من خلال الآبار، كما يمكن إقامة مجتمعات عصرية فيها، وكذا إقامة مناطق صناعية لاستغلال ما بها من معادن وموارد أخرى، هذا بالإضافة إلى غنى هذه المنطقة بالبترول»... وفى الباطن  ينتهى  الاجتماع بإعلان المشايخ أنه آن الأوان لتستقل سيناء عن مصر، على أن يكون الحكم لأهل سيناء، بحسب الخطة الصهيونية.

فى الظاهر استجاب الأهالى لكل الهلاوس والخرافات الصهيونية  وأقنعوهم تمامًا بالموافقة.. وأن الأمر بات محسومًا.. وفى الباطن كانت خطة المخابرات المصرية  والشيخ سالم الهرش هى فضح وإحراج إسرائيل أمام العالم، إذ إن الاحتلال رتب لتصوير المؤتمر المنتظر وأحضر مخرجًا إيطاليًا محترفًا، بغرض نقل كل ما سيحدث وإظهار القيادة المصرية فى موقف الضعف وعدم السيطرة على حدودها.

فى اليوم المشهود.. فى الظاهر  شيوخ سيناء أنابوا الشيخ سالم الهرش للحديث باسمهم وعنهم، وفى الباطن كانوا قد اختاروه بالفعل قبل المؤتمر المنظم فى 26 أكتوبر 1968، كان كل شىء معروفًا للشيخ سالم الهرش وباقى شيوخ سيناء، إلا الإسرائيليين الذين كانوا يعيشون فى الوهم، حيث تظاهر الشيوخ باختياره أمام الصهاينة.

فى الظاهر الشيخ سالم الهرش كان بليغًا ويتمتع بطلاقة لسان وصوت جهورى متميز.. استجاب للاختيار وقام بالتقدم إلى الميكروفون بخطى ثابتة، ثم وقف فى شموخ وكبرياء»... وقدم شيخ مشايخ سيناء نفسه قائلا «:أنا الشيخ سالم على الهرش، وأنا مفوض من زملائى بالتحدث إنابة عنهم، ثم أشار إليهم قائلا:: «هل توافقون؟! فصدرت من الجميع صيحة عالية: موافقون.. موافقون، ثم عاد ليسألهم: غير الموافق يرفع يده، قلم يرفع أحد يده…

وفى الباطن كان كل هذا جزءًا من الخطة لخداع الصهاينة، وكان ما يفعله ويقوله سالم الهرش هوالتمهيد للصفعة الكبرى وفضح الصهاينة وكالات الأنباء والقنوات العالمية التى جلبتها جولدا مائير لتسجيل الحدث.

فى الظاهر بدأ الشيخ سالم يتحدث عن أمجاد القبائل، كما أخذ يسرد تاريخ كل قبيلة من قبائل سيناء بدءًا من الشمال والوسط والجنوب، وبدت علامات القلق على القادة والضباط والجنود الإسرائيليين، فقد استغرق الشيخ فى حديثه عن القبائل وقتًا طويلًا، وهو يداور فى كلامه بطريقة توحى بأنه يمهد لإعلان موافقتهم على ما جاء بالخطة الصهيونية».

وفجأة دخل فى صلب الموضوع قائلا بسخرية: «أنتم تريدون سيناء دولية، يعنى أنا الآن لو أعلنت سيناء كدولة ستضعون صورتى على الجنيه السيناوى، فأجاب ديان بابتسامة مهللة وكأنه يقول بالطبع».

وجاءت لحظة الصدمة، بدأت نبرات الشيخ سالم تعلو ثم صاح بصوت جهورى: «إننى أشهد الله، وأشهد هذه الأرض المباركة بأننا أبناء سيناء جميعًا نرفض التدويل، كما أننا نرفض الاحتلال الإسرائيلى، وأن إسرائيل ما هى إلا دولة احتلال وعدوان، وأن سيناء أرض مصرية منذ آلاف السنين، وستظل مصرية إلى الأبد».... بدا الإسرائيليون فى ذهول، كيف أحرجهم هذا الشيخ السيناوى وخدعهم؟!

وأكمل سالم الهرش حديثه فى ثبات: «إننا مواطنون مصريون نؤمن بوطنيتنا وقيادتنا فى مصر ولن نفرط فى أرضنا مهما كان الثمن، أما مصلحتنا ومستقبلنا فنحن أدرى بهما وهما فى أيدٍ أمينة، تتولى أمرنا ولا يمكن أن تكون هناك قوة شرعية غيرها، ونحن هنا تحت أسر الاحتلال.

فى الظاهر صمت الجميع وساد حالة ارتباك شديدة.. وفى الباطن كانت المخابرات  المصرية قد بدأت تنفيذ باقى الخطة، إذ هرّبت الشيخ سالم الهرش  وأسرته عبر العقبة إلى الأردن، ليستقبل هناك كبطل.

وبقى هناك حتى نصر أكتوبر ليعود مرة أخرى إلى مصر ظافرًا، ليلتقى الزعيم جمال عبدالناصر الذى قدم له مجموعة من الهدايا عبارة عن «طبنجة وعباءة وسيارة جيب» ولكن الشيخ سالم تبرع بكل شىء للقوات المسلحة عدا العباءة التى اعتبرها رمزًا وتذكارًا من «ناصر».

وعاد الشيخ سالم إلى معشوقته سيناء، فتمر به السنون جالسًا وسط أولاده وأحفاده مزهوًا بنصر ساهم فيه  حتى وافته المنية عام 1991 عن عمر يناهز 81 عامًا.

عيش يوم واحد كالأسد، خيرٌ من عيش مائة سنة كالنعامة... فالجبناء يهربون من الخطر والخطر يفر من وجه الشجعان. 

واعلم أن الطيور تجمع الصقر والدجاجة.. فليس كل من كان على هيئة رجل هو رجل.