السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
تجاوزت أحادية قصة السياسة وحكايتها ونسجت عالمًًا خاصًًا وشخصيًات فى غاية الثراء الإنسانى

رواية نادى المحبين.. 30 يونيو وإخراجنا من حالة الشذوذ السياسى

تجاوزت أحادية قصة السياسة وحكايتها ونسجت عالمًًا خاصًًا وشخصيًات فى غاية الثراء الإنسانى

تعد رواية «نادى المحبين» للروائى المصرى صبحى موسى الصادرة مؤخرا جدا 2021 عن دار سما واحدا من أهم الروايات المصرية لعدد من الأسباب والمقومات الجمالية والفكرية أو الخاصة بالمعطيات والأبعاد الدلالية والرسائلية لخطابها. فهى تكاد تكون الرواية الوحيدة ذات الجدية الكبيرة فى اقتحام حكاية السياسة وتاريخها القريب بشكل خاص، حيث اختارت الرواية أن تقارب أحداث 25 يناير وسياقاتها الداخلية والخارجية وسقوط مصر فى قبضة الإخوان ثم انفلاتها وتحررها مرة أخرى فى ميلاد جديد مع 30 يونيو. إذن هى رواية سياسية بشكل واضح وحاسم ودون مواربة أو إسقاطات، ولكن الجميل أنها لم تكتف بقصة السياسة وحكايتها، بل كانت فى غاية الأهمية جماليا حين عالجت هذه القضية وهذا التاريخ الحافل، فكانت محتفية بالفردى وأنشأت قصة فردية فى غاية الثراء قصة هذا الدكتور غير المسمى أو غير محدد الاسم برغم كونه محورا هذا العالم الروائى وأساسه، وفى غياب التسمية دلالة مهمة تجعله بعيدا عن أى إسقاطات أو محاولة ربط بأى من الشخصيات الحقيقية الفاعلة فى هذا التاريخ. فلم يكن مهمًا بالنسبة للخطاب الروائى غير أنه (س) أو (ص)، أى مجرد مثل عام ومطلق، لكن الأجمل فى قصته الخاصة أو الشخصية وهى كثيفة الحضور مثل السياسة أنها قصة دالة بذاتها على ما كان فى عالم السياسة فى هذه الفترة من زواج السياسة بالدين أو الارتباط الشاذ بين الإخوان ومصر سياسيًا ولو لفترة قصيرة. 



ما يجعل الرواية على قدر كبير من الأهمية أنها تجاوزت أحادية قصة السياسة وحكايتها، ونسجت عالما خاصا وشخصيا فى غاية الثراء الإنسانى والأهم من هذا أن الحكايتين على قدر كبير من التطابق أو التوازى الرمزى، فهذا الباحث والمفكر السياسى الكبير بحياته الحافلة بالتحولات والسقوط والانتقام، وحالات الضعف والرخاوة مع القوة الناعمة وعمق الفكرة وجرأة المغامرة هو أقرب إلى انعكاس تام للحكاية السياسية، فكأن كليهما صدى للآخر، السياسة صدى لحياته ولما عاش، وحياته انعكاس لما كان فى السياسة أو فى أدراج الدول الكبرى من مشروع الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد. هذه المعادلة الجمالية المهمة فى جعل الحكايتين متطابقتين هى أهم منجزات الرواية جماليا وتمنحها أبعادا أعمق عند التأويل والقراءة بما يجعلها فى أقصى درجات التحفيز للمتلقى على المتابعة والتأمل والنظر للحكايتين فى ضوء بعضها وقت القراءة والتلقي، ثم التحفيز على التأويل والتفسير والفهم بعد انتهاء القراءة. والتطابق الرمزى والدلالى بين الحكاية العامة وهى حكاية التاريخ السياسى وبين الحكاية الشخصية أو الخاصة وهى قصة حياة هذا المفكر يجعل الرواية أكثر ارتباطا لأن كلتا الحكايتين ترسل رسائل للأخرى، أو تلتحم مع الأخرى عبر أنساق وروابط دلالية غير مباشرة، لأن الحكايتين فيهما المنعطفات نفسها، فيها رحلة الصعود ورحلة الهبوط والعودة والانحسار، لكل منهما ذروة ولكل منهما منحدر وانحسار للمد والموج. 

الطفل الريفى اليتيم الذى تعكف أمه على تربيته منقطعة عن الرجال وعازفة عن الزواج حتى يتردى فى الانحراف والضياع هو وأمه معًا، هى نفسها قصة مشروع الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة التى قرر الإخوان تطبيقها فى بلادنا مستخدمين فكرة الديمقراطية، الفئران التى تنقل الطاعون إلى مناطق واسعة هى قصة نادى المحبين ورسوخ ثقافة الشذوذ الجنسى لدى مجموعات ترى أنه أمر طبيعي، إنها قصة انحراف كبير، انحراف سياسى وفكرى وابتعاد تام عن الفطرة السياسية، عن الديمقراطية وقيم الإنسانية والحريات بالمفهوم الطبيعى وليس الشاذ، كما يلمِّح خطاب الرواية ويكرس من دلالات. وهم الديمقراطية مع الإخوان والتيارات الرجعية والإرهابية هى نفسها وهم اللذة الجسدية والحياة الطبيعية لدى الشواذ أو المثليين بالتعبير العالمى الذى يحاول أن يخفف من وقع الكلمة فى محاولة لإثباته. ولكن رواية نادى المحبين واحدة من الروايات الذكية أو الخطابات الروائية التى تمتلك وعيًا إضافيًا، فهى لا تصنع التناظرات والإسقاطات فقط، بل يكون لها القول الفصل فى التفريق بين نوعى الشذوذ اللذين أتت بهما، فهى تؤكد أن الشذوذ الجسدى الفردى أهون بكثير من الشذوذ الفكرى الذى ينحرف بمجتمع كامل وأمة كاملة بتاريخها وحضارتها بما يمكن أن يجعلها أسيرة فخ كبير لا تخرج منها أبدًا. هذه الرواية الثرية التى تحكى قصة صعود الإسلام السياسى فى المنطقة كلها مدفوعًا بفكرة نابعًا من هذا المفكر فى معالجة قضيتهم تأسيسًا على طرح فرانسيس فوكو ياما فى كتابه نهاية التاريخ، وتحكى بدقة شديدة وببراعة وعيا عميقا لارتباط الإسلام السياسى بهذا المشروع العالمى وفكرة الشرق الأوسط الجديد وتفتيت المنطقة والفوضى الخلاقة التى كانوا يسعون إليها وتحققت بدرجة كبيرة فى بعض دول المنطقة. لكن المهم وهى تحكى هذه التفاصيل الكثيرة أنها تتأسس على منطلقات فكرية واضحة وحقيقية وتتبعها بعمق ومن مصادرها المعرفية، أى أنها لا تطرح فكرة طائرة فى الهواء بل تؤصل لكل شيء وتنظر إلى هذه الأحداث فى إطار من الفكر العالمى وصراع الرأسمالية والشيوعية والمصالحة بينهما، وفكر ما بعد الاستعمار وهيمنة الغرب عبر الأبحاث والدراسات التى تجريها بعض المراكز فى الشرق، وكذلك فى ظل فاعلية الميديا والقنوات والإعلام وكل هذه الأدوات التى تأخذ فى خطاب الرواية موقعها الطبيعى ودورها نفوذها، لنكون فى المجمل أمام عالم روائى حافل بالعناصر الفاعلة والخطوط الدرامية الكثيفة والمتقاطعة والمتعارضة وما يتلف بعضها على بعض فى تشابك رهيب، لكنه لم يكن مستعصيا على منطق خطاب الرواية رؤيتها التى كان واضحا أن وراءها منشئًا يحاول أن يتأمل كل هذه الخطوط والعناصر بعمق ويبحث فى تشابكها وتعارضها وتوافقاتها على حد سواء. ويزيد على ذلك التطابق أو التلميح بأن كله شذوذ وانحراف إنجاز آخر مهم لأن الحكايتين العامة والخاصة، أى حكاية المفكر الشخصية وحكاية السياسة بينهما التحام وظيفى فى الفواعل أو العناصر الدرامية، ذلك لأن الشذوذ الجنسى لديه يتم توظيفه على نحو درامى جيد عبر فكرة الهيمنة أو الاختراق واستغلال الرفيق إما للإمتاع والهدية أو للترهيب والقتل والخلاص من الشخصية المزعجة، الشذوذ إما أن يكون ورقة ضغط على الخصم أو ورقة إمتاع وترفيه واسترضاء لها، فضلا عن أنها كانت دالة فى المجمل على مشروع الفوضى الخلاقة أى الارتجال العشوائى وهو ما يتحقق فى فكرة استثمار الجسد بشكل مغاير أو غير طبيعى فى المتعة، والجميل أن المنعطفات والتحولات تكاد تكون واحدة، فنتيجة الشذوذ هو عدم الإثمار وعدم الحركة أو التقدم الحضارى وهو كان حاصلا فى حال حكم الإخوان، يعنى التخبط والتردى والعشوائية، والشذوذ الجسدى كان عند المفكر بالكيفية ذاتها، فلا ثمرة لها أو ولد أو متعة حقيقية، إنه أقرب إلى حال ممتدة من الانسحاق والعدمية والعبث، إنه أمر لا يختلف على الإطلاق عن علاقة الإخوان بالأمريكان والأتراك والمعاهد والمؤسسات الصهيونية أو أى من الأطراف الأخرى التى كانت فاعلة فى هذا المشروع وكانت تستخدم الإخوان وهذه الجماعات. إذن كان الشذوذ الجنسى جزءا مهما من هذا العالم الذى قدمته الرواية وكان يتم استخدام كافة الأوراق فى صراعاته للضغط أو الاستمالة وهكذا فإنه ليس مفتعلا أو للإثارة والتشويق وحسب، بل لكونه عنصرا فى غاية الحيوية وتم استثماره على نحو جيد بما يكشف عن تخطيط العقل السردى ووعيه بالخطاطة السردية قبل الكتابة وبعدها. والخطاطة السردية هى تعبير للفرنسى جريماص يتحدث فيها عن سيطرة العقل على العناصر الفاعلة فى الحكاية قبل أن يقوم بتحويلها إلى خطاب سردى، فهنا إلمام كبير وسيطرة واضحة على كافة عناصر الحكاية وشخصياتها بما يشكل كل منها من عنصر، فعلى سبيل التمثيل ننظر كيف كان يتم توظيف شخصية حمد وأدواره فى تحريك الفعل الروائى فى مسارات تبدو متناقضة، وكيف كان يتم توظيفه للخديعة أو التمويه أو لإرسال دلالات معينة لهذا المفكر وكيف كان يتم الاختراق والتجسس عن طريقه، والأمر يكاد يكون على النحو ذاته فيما يخص شخصية إنعام بما لها من أثر وأدوار وبخاصة فى توظيفها للانتقام فى القضية أو لخلق حالة من الصراع مع الوضع الطبيعى أو الزوجة الأخرى صباح، لتكون دالة على نقيضها، وليقارن عقل المتلقى بين النموذجين بما يعبر كل منهما عن البراءة والمصرية والصدق والإخلاص والحقيقة والإنجاب/الثمرة، والأخرى بما تعبر عن الزيف والخيانة والغدر وغيرها من المعاني، فتكون كل شخصية قد أنتجت مجموعة من القيم الخاصة بها، وهذه القيم فى النهاية تتصارع مع بعضها، فلسنا أم شخصيتين تتصارعان أو تأخذ كل واحدة منهما النقيض من الأخرى، بل نكون فى المنتج النهائى أمام مجموعة من القيم والأفكار المتصارعة التى تستوجب بالضرورة انحياز المتلقى وتستفز عاطفته وموقفه، فيكون مثلًا منحازًا لصباح وراغبًا فى رؤية البطل يمضى فى مسارها بقوة ولا يعود أو ينحرف عنها ناحية إنعام، بالضبط مثل موقفه من الإخوان ورفضهم والمضى قدما باتجاه 30 يونيو والثورة عليهم لتعديل الأوضاع. وعبقرية الخطاب الروائى فى تقديرنا تكمن فى أن يكون قادرا على أن يخلق الخلطة التى تسترعى انحياز المتلقى وتخلق لديه موقفا والأهم أن يكون ذلك دون إفتعال، فما بالنا بأن يكون كل هذا ذا أبعاد ومعطيات رمزية، فتكون صباح رامزة إلى مصر الحقيقية ورامزة للصدق والأمان والخير لا الزيف والتضليل والتبعية والانهيار وغياب الامتداد كما فى الشخصية الأخرى.

من منجزات خطاب هذه الرواية ومظاهر ثرائها أنها لم تكن مجرد ساحة للصراع السياسى وحسب، ولم تقف عن قصة هذا الصراع على الحكم بآفاقه الضيقة، بل كانت صراعًا بين المادية والروحية، صراعًا بين الفكرة ونقيضها، بين الشذوذ والفطرة الطبيعية، صراعًا بين الحق والباطل، بين الأمل واليأس، بين النور والظلام. من حيث تحولات الرواية ومفاصلها الحدثية والزمنية يتم تقسيمها إلى قسمين/رحلتين، رحلة الفقد، ورحلة الاستعادة، والحقيقة أن واحدة منهما تدل على الصعود نحو الهاوية أو الصعود حتى الانزلاق.