الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 78

لغة الجينات 78

«التعصب» هو المادة الخام لكل «فتنة».. وكل إنسان بداخله ركن ممكن أن ينبت فيه التعصب للون أو الجنس أو الدين.. صاحب الجينات الأصلية فى الظاهر قد ينجرف أحيانًا نحو التعصب.. لكن فى الباطن يموت هذا الركن مبكرًا.. يعرف كيف يتعامل معه بحكمة فيظل ركنًا مظلمًا خاملًا لايتحرك. «أصحاب الجينات الخبيثة» من الحمقى والسفهاء والجهال، فى الظاهر يقدمون أنفسهم كمصلحين.. يسعون للخير وفى الباطن يعيشون ،من أجل هذا الركن.. يزكون التعصب.. فاسدون فى ذواتهم.. بطبعهم ينشرون الأكاذيب ويثيرون المشكلات على كل المستويات ٍ.. يوقظون  الفتنة بين الناس. «التعصب «فى الظاهر له ميكانيكية ثابتة عبر كل الأزمنة وفى كل المجتمعات ومختلف المستويات..وفى الباطن الأزمة الاقتصادية وضيق الرزق وتوتر الحياة من أسبابه...وهى الحجج نفسها التى يقدمها أصحاب الجينات الخبيثة لتبرير أفعالهم الدنيئة فى نشر الفتن ماظهر منها وما بطن.



«التعصب» نتاج طبيعى جدًا للتعاسة الاجتماعية والتى هى فى الظاهر المحرك الأساسى والرئيسى للفتن خاصة فى ردات الفعل.. وفى الباطن  يجرى  البحث عن أكباش فداء.. أعداء حقيقيون أو غير حقيقيين للتنفيس وإخراج ما فى النفوس من ضغوط  تكاد أن تحدث انفجارًا فى المجتمع كله. «الفتنة» أيضًا نتاج طبيعى للتعصب والحكمة تقتضى التعامل معها بحذر.. فى الظاهر يمكن استخدامها فى عملية الإلهاء لكسب المزيد من التعاطف وفى الباطن هى خطر حقيقى قد يحرق الجميع.. فالحل مواجهتها وهى فى المهد وليس التأخر فى إطفاء حرائقها  فوقتها  ستكون  نارها قد أتت على كل شىء.

السعى بالفتنة بين الناس.. سبب رئيس من أسباب استفحال كل الأزمات.. بذور التعصب الكامنة فى النفوس جاهزة لتتحول نارًا بمجرد أن يصب أحد الزيت عليها...وكلما كثر الحمقى والسفهاء والجاهلون زاد التعصب.. واختفى نموذج مثل الكاتب الكبير والسيناريست الرائع كرم النجار. «كرم النجار» من أصحاب الجينات الأصلية الذين عاشوا فى مجتمع لايعرف التعصب ولا الفتن... مجتمع لايتحدث فيه عن دين الآخر ولايسأل أحد عن دين أحد.

«كرم النجار» فى الظاهر كاتب كبير موهوب سيناريست له أعمال خالدة دفعت المخرج  الكبير أحمد طنطاوى لترشيحه لسعد لبيب أول رئيس للتليفزيون المصرى ليكتب سيناريو وحوار مسلسل «محمد رسول الله» وفى الباطن كان القدر يعطينا درسًا فى قتل التعصب والفتن.

فى مكتب سعد لبيب طلبوا من الكاتب الكبير البدء فى كتابة السيناريو والحوار لمسلسل محمد رسول الله عن كتاب لتوفيق الحكيم.. فوجئ الجميع بذهول ودهشة  كرم النجار والذى رد لكن  أنا مسيحى.... يضحك سعد لبيب ويقول له ما عباس  العقاد كتب عبقرية المسيح... ويرد أحمد توفيق أول مرة أعرف إنك مسيحى ياكرم.. ومع ذلك أيه علاقة ده باللى بنطلبه منك.. أنت كاتب موهوب وسيناريست رائع ورشحتك لأنك الأقدر والأجدر..والشغل هيطلع حلو.

«كرم النجار « فى الظاهر طلب مهلة للتفكير.. وفى الباطن قرر السفر إلى والده فى المحلة الكبرى ليسأله عن رأيه.. فى المحلة كانت المفاجأة الثانية فى رد الأب :»إذا كنت تثق بنسبة ألف فى المائة أنك لن تخطئ وأنك ستكون حريصًا وفاهمًا تمامًا لما تكتب وأنك لن تتسرع فتقدم وعلى بركة الله... لكن خلى بالك حسن النية مش كفاية لازم تبحث وتتعمق وتتأنى فى كل حرف بتكتبه.

30 حلقة كتبها كرم النجار.. فى الظاهر حلقة حلقة وصفحة صفحة بيراجعها الأزهر  وبيختمها أولًا بأول.. لم تأت ملاحظة واحدة على كل الحلقات.. وفى الباطن لم تجد الصحافة وقتها 1968 أن ديانة المؤلف تعتبر خبرًا فى حد ذاته..  لم تجد فيها مايثير شهية القراء أو يلفت حتى نظرهم،فلم يشر أحد لامن قريب ولا من بعيد إلى ديانة كرم النجار الذى يكتب السيناريو والحوار لأول جزء من مسلسل محمد رسول الله والذى نجح نجاحًا مبهرًا وعاش فى ذاكرة كل الأجيال... كما لم يعترض أحد عندما كتب الشاعر الكبير الخال عبدالرحمن الأبنودى قصيدة «المسيح «عليه الصلاة والسلام ولحنها العبقرى بليغ حمدى وغناها العندليب.

«كرم النجار « لم يكن حالة استثنائية يروجها فى الظاهر المجتمع ليعلن عن سماحته.. كرم النجار كان نموذجًا يعيشه المصريون.. ظل الكاتب الكبير وحيد حامد  فى بداياته يعيش معه فى شقته بمصر الجديدة سنتين  ولم يعرف أنه مسيحى إلا عندما تسلم خطابًا ووجد الاسم عليه « كرم وديع بولس النجار».

علاقات صحية ومجتمع صحى يتنفس بصدق.. مشاعر صادقة  يسودها الحب والمودة والاحترام دون الدخول فى تفاصيل العقيدة.

ألم أقل لكم إن التعصب هو المادة الخام الجاهزة دائمًا لإشعال الفتنة..ألم أقل لكم إن التعاسة الاجتماعية و العجز هى الزيت الذى يصبه أصحاب الجينات الخبيثة لتشتعل الفتنة.

ألم أقل لكم إن فقه التعامل مع «الفتن» ماظهر منها ومابطن يقتضى التعقل والحكمة، وعدم التهور والطيش، والانسياق وراء العواطف دون تأمل فى العواقب...فـ «الفتنة نائمة.. لعن الله من أيقظها»