الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
عفيفة لعيبى ورحيق التعدد

جاليرى بيكاسو يفتتح معرضا استعاديا لأعمالها

عفيفة لعيبى ورحيق التعدد

لعلنا أحيانا لا نبالغ إذا أطلقنا إصطلاح الحركة النسائية فى الفن التشكيلى مع أن البعض فى وقتنا الحالى قد يعتبر هذا الإصطلاح فيه شيء من التمييز.. لكن فى الحقيقة هناك ما يمكن أن نطلق عليه الحركة النسائية فى الفن التشكيلى.. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن هناك أقطابا لهذه الحركة خصوصا فى الوطن العربى الذى لم يسمح فيه للمرأة بممارسة فنون كثيرة إلا فى النصف الأول من القرن العشرين باعتبار أن الفن التشكيلى وتحديدا وإن كان لم يحظ باهتمام كبير فى هذا الحقبة الأولى لكنه كان نشاطا مقصورا على الرجال فقط.. وتعتبر الفنانة العراقية الكبيرة عفيفة لعيبى من أقطاب الحركة النسائية فى الفن التشكيلى فى العالم العربى وبصفة أخرى فى العالم الغربى أيضا.. فهى من خلال تاريخها الطويل وحركتها الدائبة بين الأقاليم الجغرافية والثقافية امتصت الشىء الكثير من رحيق الحركة التشكيلية العالمية وهذا ما أهلها أن تصبح تيمة مميزة بين عشرات التيمات فى الفن التشكيلى العربى، لكن هذا الترحال الدؤوب الذى ميز عالم عفيفة لعيبى ما يجعل الدخول لعوالم عفيفة تحليلا ونقدا ليس بالشىء السهل، لكننا نحاول أن ننفذ إلى دقائق الفنانة الكبيرة بشكل من السرعة لندشن معها معرضها الجديد فى جاليرى بيكاسو فى القاهرة.



يعتبر التنوع الفكرى والثقافى لدى عفيفة لعيبى هو إحدى معضلات إبداعها لأننا ببساطة لن نستطيع قطعًا نسبها لمدرسة بعينها أو لتيار بعينه لذا فإننا نضعها فى مجمل صورة الحركة التشكيلية النسائية وفى طليعتها إيضا، كما نستطيع أن نضع عفيفة كأحد إرهاصات عوالم التشكيل النسائى فى وقتنا الحالى بمعنى أنها طابق كبير بالغ الأبهة فى عمارة التشكيل النسائى.

رحلة عفيفة تبدأ فى موسكو فى سبعينيات القرن الماضى.. موسكو السوفيتية والحمراء حتى النخاع وليس من العجب أن نجد هذه الروح فى أعمال الفنانة فمن حيث المقاييس الجسدية فى أعمال لعيبى فإن مقاييسها سوفيتيه باقتدار ويعتبر ذلك لسببين أولهما أنه كانت تدرس فى معهد سيكوف الموسكوفى الشهير محاطة بأعمال العظماء من الحقبة السوفيتية والتى تميزها رسوخ البنية على طراز النصب والتماثيل التى تمجد هذه الحقبة والتى يبدو فيها الجسد بين القوة والامتلاء كما تصبح الذراعان فى بعض الأحيان أكثر امتلاء من المقاييس الأوروبية، لكن فى الحقيقة يعتبر التأثير الروسى على عفيفة تأثيرا طارئا ترك أثره لكنه لم يلتهم مخيلتها والحقيقة أن رحلة إيطاليا التى قامت بها لعيبى بعد مغادرتها موسكو كانت أكثر تأثيرًا خصوصًا فى أعمال الطبيعة الصامتة التى يظهر فيها تأثير المدرسة الإيطالية الحديثة فى هذا النوع من الفن التشكيلى حتى فى الموضوعات مثل اختيار طبق وبقايا الطعام أو ثمار صغيرة فى طبق مع وجود ترف فى تصوير القماش والنسيج، لكننا إيضًا لا نستطيع أن ننكر أن تعلق الفنان بالمكان قد يجعل هناك مساحات أكثر رحابة للإبداع فهناك إشارات فى أعمال عفيفة لعيبى تعبر عن هذه الأشكالية أى ارتباطها بالمكانية وظلال الذكريات فمثلا لوحتها بولشينيللا هى أيطالية الهوى بل فينيسيه حتى النخاع ف بوليشينيلا هو أحد شخصيات الملهاة المرتجلة الإيطاليه أو comedia del arte  وهى أشهر فنون إيطاليا وفينيسيا تحديدا فى بداية من حقبة الباروك لكن لعيبى تتناول بوليشينيللا بروح جديدة ورؤية ذاتية أيضًا فهو البلياتشو أو المهرج الذى يقف شاخصا بدون أى تعبير عن البهجة غارق فى درجة من درجات الأخضر تحت قمر صغير باهت غير مكتمل وكأنه مهرج حكيم كما فى مسرحيات الحقبة الإليزابيثية بعكس صورته المتداولة على الكروت التقليدية الفينيسية والتى يمتلأ فيها بهجة ومرح، ونرى هذا التأثير أيضًا فى أعمال أخرى مثل المرأة الواقفة عند الجسر العتيق فى فلورنسا – بونتى فيكيو – ما يجعلنا نؤكد على تلك الروح المكانية فى أعمال لعيبى.

لكن على مايبدو أنه كما قلنا أن عفيفة كانت إحدى إرهاصات الفن التشكيلى النسائى الحالى بجدارة.. بمعنى أنها جسدت ما يعرف الآن بعزلة وتوحد الفن التشكيلى النسائى وهو وجود الأنثى فى بؤرة الأعمال الفنية بشكل دائم وكأن الفنانات التشكيليات يدرن فى فلك ذاتى أو يحاولن التعبير عن العالم من خلال رؤية أنثوية ذاتية.. وهذا بالطبع ليس انتقادا للفن النسائى بقدر ما هو تحديد لعوالم الفن التشكيلى النسائى فى الوطن العربى.. البطلة دائما هى الأنثى بين الرمز والتعبير لكن بالطبع هذا يعتبر أحد مميزات عفيفة لعيبى لأنها تفتح لنا بابا لعالمها من خلال رؤيتها الخاصة.

وليس من الغرابة أن يكون لفنانة بحجم عفيفة لعيبى تجارب فى المدارس الحداثية والأكثر إغراقا فى الرمز ولمدى نجاحها فى ذلك نستطيع أن نقول أن عفيفة سريالية أحيانا لكنها سريالية بعمق بل تتعدى موضوعاتها السريالية موضوعات أعتى السريالين فمثلا لوحتها – بلا أمل – طرحا سرياليا متزن وواضح الرموز تلك الأنثى المبتورة التى تشبه لحد بعيد أفروديت أو حطام أفروديت والتى تمد بقايا ذراعها المحطم لتلتقط الملابس المنشورة على حبل الغسيل.. وبينهما كرسى متحرك .. اللوحة تنطق بالعجز حتى أنها تستحق اسمها فعلا – بلا أمل. 

نفس الطرح السريالى الصريح والراقى تقدمه لعيبى فى لوحتها – ذاكرة – ربما يمكننا بأريحية أن نطلق على سريالية لعيبى السريالية المحببة لكون السريالية لا يفضلها المتلقى البسيط فى أغلب الأحيان لكن سريالية عفيفة سريالية قريبة للقلب.

كما تعتبر الحركة الأيقونية من أهم ما يميز أعمال عفيفة وبالطبع إذا كنت تعيش مثل عفيفة فى مدينة خبزها الجمالى هو الأيقونة مثل موسكو فلن تخرج قبل أن تقضم من هذا الخبز قضمه مشبعة تظهر فى  معظم أعمال الفنانة باعتبارها تكنيك، أى أن الميزانسية النسائى فى أعمال عفيفة هو ميزانسية أيقونى فى مجملة مثل اتجاه حركة الوجه، وضع الذراعين مقاييس الجمجمة. 

من ناحية المساحة اللونية تستخدم عفيفة لعيبى الأخضر بدرجاته بجانب الأصفر بدرجاته والأخضر وتقترب أحيانا بتقنيتها اللونية من المدرسة الوحشية لكن بكثافة أكبر كما أنها تقترب من بعض موضوعات المدرسة الوحشية مثلما فى لوحتها – قبعتى الإفريقية - لكن تظل إلوانها فى الحيز المبهج. 

إذن فعفيفة لعيبى هى عربة فى قاطرة كبيرة تحوى عظماء مثل اليزابيث جيرشو وجوان أيردلى وأنتونيا برانديز، وتقترب كثيرا من الأسبانية العظيمة روزاريو دى فلاسكو.. مكرسة بشكل كبير للتشكيل جل حياتها فهى تعدو وراء طيف الفن التشكيلى فى ترحالها الدائم.  فى المجمل فإن الفنانة الكبيرة عفيفة لعيبى جائزة كبير لأى متلقٍ فى الوطن العربى ومن ثم فإن جاليرى بيكاسو كما عودنا يقدم دائمًا النجوم الكبار فى عالم الفن التشكيلى.

سانت ياسنت – باريس فى 25 أكتوبر 2021 امتصت الكثير والكثير من رحيق الحركة التشك.