الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 89

لغة الجينات 89

«الكدب مالوش رجلين».. لكن له أجنحة ترفعك السما.. الناس بتحب اللى يكدب عليها.. يعيشها فى الوهم.. يعطيها أملًا زائفًا.. جينات خبيثة ممتدة فى الكدابين من أول الخلق إلى يوم الدين..



فى الظاهر الكدب بيرضى الناس بعض الوقت، ويعطى الكداب فرصة ليبدو نزيهًا شريفًا.. وفى الباطن مخدر لذيذ بيجرى فى عروق الناس يُنسيهم بلاويهم والوضع السيئ اللى عايشين فيه، يُعطيهم أملًا زائفًا لا ولن يتحقق.. وكل ما كانت الكدبة كبيرة اترفع الكداب لفوق، والتف حوله الناس وأصبح له مريدون ومتابعون ومقلدون وعشاق ومدافعون عنه باستماتة.. ببساطة وسهولة يتحول الكدب فى حياتهم جميعًا لأسلوب حياة.

أصحاب الجينات الخبيثة بيواصلوا بإخلاص شديد الحفاظ على تراث ونظرية الألمانى الشهير «جوزيف جوبلز» مهندس ماكينة الدعاية الألمانية لمصلحة النازية وأدولف هتلر.. أول من رفع فى الإعلام شعار «اكذب، اكذب، ثم اكذب حتى يُصدقك الناس».. النوع ده من الكدابين  بيقدموا نفسهم فى الظاهر على أنهم مصلحون يحملون المن والسلوى.. فقط يطلبون الصبر،أن تصدقهم وتسير خلفهم مغمض العينين مخدر الحواس فهم أدرى بمصلحتك منك.. والمثير والغريب أن قطعانًا كبيرة  يسيرون خلفهم بلا تفكير وكلما انكشفت كذبة أخفوها بكدبة أكبر والقطعان تستمتع أكثر وأكثر بالأكاذيب.. وفى الباطن تحركهم الرغبة فى الحصول على منافع كثيرة لا يستحقونها، والخوف من فقدان بعض المكتسبات الزائلة، والرغبة فى الوصول إلى القمة حتى لو كان الثمن بيع أنفسهم بثمن بخس.

 «الكدابين» من أصحاب الجينات الخبيثة، لا يشعرون بالذنب فتكرار كدبهم أعطاهم حصانة عملاء وأبرز ما فيهم إخلاصهم الشديد  للتفاصيل، ففيها  يسكن الشيطان.. مدمنون سرد حكايات لطيفة ظريفة مضحكة أحيانا ومبكية فى كل الأوقات، بارعون فى البعد عن القصة الحقيقية وإغراقك معهم فى تفاصيل كثيرة كى تنسى أو ترتبك وتشك فى نفسك وقدراتك، يزرعون فيك وهم أنك سبب تعاستك وفشلك، يدفعونك دفعًا لتدخل فى زمرة القطيع تستمتع بأكاذيبهم، وتجاريهم على أمل الحصول على منفعة من أى نوع.

تحب تعرف الكدب متأصل إزاى فى الكدابين؟.. أشهر فيلم وأهم  كلاسيكيات الرسوم المتحركة عن الكداب الأشهر «بينوكيو».. هى نفسها كدب.. الفيلم اللى أنتجته والت ديزنى فى عام ١٩٤٠.. بعد النجاح الساحق «لسنو والأقزام السبعة» ملئ بالأكاذيب.

 فى الظاهر تبدأ القصة فى فيلم ديزنى برجل ثرى وحرفى ماهر اسمه (جوبيتو) لكن فى الباطن والقصة الأصلية كان «جوبيتو»  رجل فقير يعيش و يعمل فى حفرة تحت سلالم أحد بيوت القرية.. فى فيلم ديزنى استجابت الجنيات رجاء «جوبيتو» بالحصول على ذرية خاصة به فوهبته بينوكيو.. لكن القصة الحقيقة لكولودى هى أن نجارًا من القرية قد تفاجأ عندما هوى بفأسه على قطعة خشب صرخت من الألم وبكت، فأعطى الخشب لجوبيتو الذى كان يريد أن يصنع دمية؛ وعندما نحت «جوبيتو» فم الدمية، بدأت تغيظ جوبيتو وتخرج لسانها , تضحك و تسخر من صانعها.. عندما نحت لها ذراعين، خطفت شعره المستعار، عندما صنع لها قدمين تركته وهربت، ورغم ذلك ظل «جوبيتو» على طيبته وحبه للدمية فعندما احترقت قدماها صنع لها أرجل جديدة.

فى الفيلم ينصلح حال الكذاب الأشهر ويتوقف عن الكذب وتكافئه الجنية بتحويله إلى إنسان.. وفى القصة الحقيقية، عندها ظهر لبينوكيو ضميره المتمثل فى «جيمى كريكيت».. حشرة متكلمة حاولت إصلاح حال الطفل الفاسد وبدأت فى تأنيب «بينوكيو» على أفعاله وتحذره من عواقبها.. وتحاول  جذبه إلى الطريق الصحيح.. كان رد  الكذاب الأشهر «بينوكيو»  أنه لا يريد سوى  الطعام والشراب والنوم وعيش الحياة بلا مسئولية أو أخلاق تمنعه من عمل ما يريد وقتما يريد.. أن يظل يتجول فى الشوارع  من الصباح حتى المساء.. حذره «كريكيت»  من أن أسلوب هذه الحياة يؤدى للسجن أو أسوأ  وأن عليه العودة للمنزل وأن يكون طفلًا مؤدبًا ومطيعًا.. فما كان من «بينوكيو» إلا أن قذفه بمطرقة قتلته فى الحال.. قتل ضميره الحى ليعيش فى أكاذيبه سعيدًا... لم يندم لحظة واستمر فى أكاذيبه التى لا تنتهى.. قال لصانعه «جوبيتو» إنه لم يخطئ.. وأنه لم يقصد قتل «ضمير».

انطلق «بينوكيو» بلاضمير.. عاش كما يريد.. وقابل مجموعة من الناس زعموا أنهم يزرعون الذهب لتنبت شجرة الذهب، وللمرة الثانية ظهر له ضميره «كريكيت»  بهيئة شبح.. وبدلًا أن يعتذر بينوكيو على قتله.. رفض نصيحته بعدم الذهاب معهم  واستمر فى الكذب والسرقة.. وسرعان ما تأتى النهاية المأساوية لبينوكيو! أهالى القرية وجدوه  مشنوقا على فرع شجرة خارج القرية.

القصة الحقيقية اللى كتبها  الروائى والفيلسوف الإيطالى «كارلو كلودى» عام 1881 ونشرها حلقات فى صحيفة صغيرة أثارت ضجة كبيرة وقتها انتهت عند شنق الكذاب الأشهر.. الغريب والمثير أن الناس لم تتقبل  الصدق.. طالبت بكذبة كبيرة جديدة.. فضلت أن تكون مثل «بينوكيو» تعيش فى الأوهام والآمال الزائفة بتغيير الأحوال.. رفضت  النهاية ورأتها مأساوية.. وأجبر الناشر والقراء الكاتب على تغيير نهاية القصة.. فضلوا أن يكدب عليهم بدلًا من مواجهة الحقيقة .

الجميع طالب «كارلوكلودى» بإضافة حلقة جديدة يكتب فيها نهاية سعيدة للكذاب الأشهر.. استجاب الرجل وكتب حلقتين قدم فيهما مايرضى الناس ويخدر مشاعرهم ويجعلهم أكثر استمتاعا بالكذب.. أعاد «بينوكيو» للحياة وبدأ سلسلة من العقاب ليصلح من أحواله.. صنعه حمارًا لفترة وكلبًا فترة أخرى.. وعاد ضميره «كريكيت»  ليكون بجواره ويرشده ..ورغم أن الفرصة كانت سانحة أما ضميره لينتقم من «بينوكيو» إلا أنه سامحه كما سامحه صانعه العجوز الطيب «جوبيتو» ثم جاءت المعجزة التهمه قرش وبمساعدة الجنية الزرقاء استحق حريته وخلاصه.. وأصبح طيبًا ودودًا.. صار بينوكيو ولدًا ذا خلق و يهتم بأبيه جوبيتو» وأنقذه  من الفقر المدقع بعمله فى مسرح الدمى وحصوله على أربعين عملة ذهبية.

هذه النهاية الكاذبة المخدرة للمشاعر لاقت استحسانًا كبيرًا من الجميع وصفقوا لها طويلًا. ألم أقل لكم إن الناس تعشق من يكدب عليهم.. من يُعيشُها فى الوهم.. ويعطيها أملًا زائفًا.. ألم أقل لكم إن الكدب  له جناحين يرفعونك للسما.. ألم أقل لكم إن الناس بتفضل الكدب وبيحتفلوا به  وعاملين له  عيد  فى أول إبريل من كل عام.