الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 97

لغة الجينات 97

الصمت فضيلة.. لغة صعبة لايجيدها إلا أصحاب الجينات الأصلية.. الصمت دواء مر لايقدر عليه الكثيرون.. الصمت بداية الحكمة وأول المعرفة.. نضوج فكرى حين يصل إليه الإنسان تصبح كلماته أكثر حكمة وعباراته موزونة وذات قيمة وموضوعية... الصمت رياضة وعبادة وحكمة.



ما بين “شهوة الكلام” وفضيلة الصمت..  يمكن تلخيص حياة عبدالله النديم خطيب الثورة العرابية.. أحد أصحاب الجينات الأصلية.. وأحد أعلام الحرية وواحد من رجال مصر.. عاش فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وهذه الفترة من الزمن كانت عصيبة فى حياة الشعب المصري، كثرت فيها الأحداث متسارعة ومتشابكة، فقد أجهز الإنجليز على ثورة أحمد عرابى.. ثورة  الفلاحين  كما أطلقوا عليها.. فبعد أن كان المصريون قد مهدوا لحياتهم بنهضة تناولت مختلف جوانب الحياة المادية والثقافية والاجتماعية... تواطأ السلطان والخديو والإقطاعيون ففشلت الثورة العرابية واحتل الإنجليز مصر.

“عبدالله النديم” وشى به فلاح استبدت به شهوة الكلام، بعد هروب 9 سنوات كاملة هرب فيها النديم صانه “الصمت” خلالها رغم تنقله بين عدة قرى فى الدلتا.

لم يذكر لنا التاريخ اسم الفلاح الثرثار الذى وشى بالنديم.. أو قل لا أريد أن أكتب اسم  شخص تملكته “شهوة الكلام” فلم يحفظ لسانه وباع “النديم” الذى أفنى حياته دفاعًا عن البسطاء وألهب الصدور للدفاع عن الوطن.. لكن التاريخ ذكر لنا بالاسم كل من التزموا “الصمت” ،9 سنوات تنقل فيها عبدالله النديم بينهم..  عاش وتزوج وساعدوه بالمال والملابس ولم يتركوه بعد القبض عليه اعترفوا بأنهم كانوا يعرفونه من أول يوم دخل فيه قراهم وعاش بينهم.

فى صيف 1882 غزا الإنجليز مصر..  أجهضوا الثورة العرابية، ونصبت سلطات الاحتلال المحاكم العسكرية للثوار ونفت منهم من نفت وأعدمت من أعدمت وجاء الدور على  عبدالله النديم..  فلفقت له تهمة الاشتراك فى حرق الإسكندرية.. وصدرت أوامر بالقبض عليه فقرر الاختفاء معتمدًا على موهبته فى التمثيل والتخفى..  وساح فى قرى الدلتا.. ولما أتعب هروبه الداخلية رصدت الوزارة مكافأة ألف جنيه مصرى لمن يدلى بمعلومات تقود للقبض عليه.

طالت غيبة “النديم”..  9 سنوات يغلفها صمت الأهالى ويحفظون بصمتهم  خطيب الثورة التى خرجوا فيها يدافعون عن بلدهم..  صمت كامل  لدرجة  ظن  الكثيرون أن النديم  مات، إلا أن سلطات الاحتلال أمرت بالاستمرار فى البحث عنه.

 فى تلك الأثناء تنقل النديم بين عدة شخصيات صنعها من مخيلته، فمرة يظهر فى إحدى القرى بشخصية يوسف المدنى وأخرى فى شخصية على اليمنى، وثالثة على هيئة صوفى مغربى اسمه سى الحاج على المغربى، ورابعة الشيخ محمد الفيومى.

9 شخصيات أو أكثر انتحلها النديم فى ترحاله من مكان لمكان ومن بلد لبلد، لم يتوقف خلالها قلمه عن الكتابة والنشر بأسماء مستعارة.

“النديم” خلال رحلة التخفى تعقبه ضابط شرطة وطنى يعمل فى أحد أقسام محافظة الغربية... أوقفه  الضابط وقال له: «مافيش داعى للتنكر.. أنا عارف أنك النديم»، رد النديم قائلا: «نعم أنا النديم».. الضابط الوطنى فضل الصمت على شهوة الكلام وشهوة الانتصار الزائف وشهوة الترقية والمكافأة التى رصدها الإنجليز للقبض عليه.. 1000 جنيه... ووقتها كان مبلغًا ضخمًا وخرافيًا.

انتصر الضابط الوطنى لفضيلة الصمت وقال للنديم: “ماتخافش.. مش احنا اللى نسلم اللى دافع عنا..  ووصف له طريق آمن يمشى منه وأعطاه 3 جنيه هى كل ماكانت معه.

بعد 9 سنوات من التخفى وتحديدًا فى عام 1891 ألقى القبض على النديم فى بلدة الجميزة التابعة لمركز السنطة مديرية الغربية، وأحيل إلى النيابة العامة.

فى النيابة وقف النديم أمام المحقق الشاب “قاسم أمين” رائد تحرير المرأة فيما بعد، فأكرمه وأوصى مأمور قسم طنطا بحسن معاملته، وأثار خبر القبض على النديم ضجة كبيرة فى مصر والعالم وطالبت الصحف بالعفو عنه، فقرر مجلس الوزراء برئاسة عبدالرحمن باشا رشدى فى جلسته المنعقدة فى 12 أكتوبر عام 1891 إبعاد النديم إلى الشام والإفراج عن كل من ساعده على الهرب ومنحه 150 جنيهًا ليستعين بها فى منفاه.

صدقونى.. قريبًا جدا هيكتب التاريخ أننا كنا غارقين فى بحور من الكلام.. نعيش تحت سيطرة شهوة الكلام.... نعيش سكارى بخمور من كلام... نرتوى من بحور مالحة نظنها عذبة بسبب الكلام.