السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

العشق المتبادل بين الصحافة والأدب

حكى الروائى الراحل جمال الغيطانى موقفا حدث له مع الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش فى أحد المؤتمرات الأدبية الدولية حينما لمح درويش الغيطانى وهو يدون ملاحظات له عن المؤتمر فقال له بدهشة: ماذا تفعل يا جمال؟ فقال: أكل العيش يا محمود . وهذه العبارة كاشفة أن الأدب لا يطعم خبزا، ولذلك يلجأ الكثير من المبدعين والنقاد إلى العمل بالصحافة من أجل زيادة الدخل والعيش بكرامة.



من الكتاب العالميين الذين زاوجوا بين الصحافة والأدب هناك، همنجواي، جارسيا ماركيز، سارتر، ألبير كامي، ومن العرب كان نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، فتحى غانم، الطيب صالح، غسان كنفاني، جمانة حداد، إلياس الخوري، قاسم حداد، عبده خال، خليل صويلح، عبدالله الحامدي، حجى جابر، خيرى شلبي، جمال الغيطاني، فاروق جويدة، إيليا أبو ماضي، وغيرهم الكثير. ولكن هل أضافت الصحافة للأدب بالإيجاب أم أثرت عليه بالسلب؟ واللافت هو ذلك الكم الكبير من الأدباء الذين اشتغلوا بمهنة الصحافة، وكذلك الذين تبلورت امكانياتهم فى الكتابة الأدبية من خلال العمل فى الصحف، وكثير من الأعمال الأدبية كانت فى الأصل تحقيقات صحفية، وهنا من الضرورى أن نشير إلى جارسيا ماركيز بشكل خاص، حيث يمثل حالة فريدة للصحفى الأديب، الذى حملت رواياته عناوين صحفية، كدليل على تأثير تجربة العمل الصحفي، على موهبته فى الكتابة الروائية، وهنالك أعمال صحفية لماركيز تحولت إلى روايات مثل «خبر اختطاف» و«قصة بحار غريق»، إضافة إلى نصوصه الصحفية مثل «نصوص ساحلية»، و«بين السياسيين»، و«من أوروبا إلى أمريكا»، و«مجانا»، و«وقائع وتقارير»، كل تلك كانت أعمالاً صحفية لـ «سبيتموس»، وهو الاسم الصحفى لماركيز الذى كان يكتب مقالاته الصحفية تحت هذا الاسم المستعار.

جابرييل جارسيا ماركيز كان يقول سأعيد للصحافة لغتها الأدبية، وعلى الأغلب نجح لأنه فصل تمامًا بين شخصيتيه الصحفية والروائية.

الصحافة والكتابة عشيقتان قريبتان من بعضهما بعضا ومتشابهتان فى المتطلبات، والضغوط، والاستفراد، والاستحواذ على الكاتب، وما من شيء يوفق بينهما مثل التنظيم، والسيطرة على الوقت، وصرِّهِ من أجل واحدة منهما، ومن دون التفكير بالأخرى! أنا أعمل أديبا فى الساعات الأولى من الصباح، من ساعة يقظتى حتى التاسعة صباحا، وبعدئذٍ أخلع إهاب الأديب، لأعيش ساعات فى عالم الصحافة وأخبارها الدائرة مثل أطباق الفضاء.. مرات تدوخني، ومرات تسخر منى لأننى لم أقدر على منافستها!».

والشاهد أن الأعمال الروائية كانت لاحقة، أتت بعد مرحلة الصحافة فى حياة ماركيز، الذى ولج إلى عالم الأدب والإبداع عن طريق تلك المهنة، واشتهر بتقاريره وتحقيقاته الصحفية المميزة، فماركيز استمد أسلوبة وتقنياته الروائية من خلال توظيفها أولا فى كتابة تقاريره الصحفية، والمسألة المهمة هنا أن الروائى الكبير وصف العمل الصحفى بالصنف الأدبى المتكامل.

وبخلاف ماركيز، نجد أن من الكتاب الذين عملوا بالصحافة هناك تولستوى ومارك توين، وأنطون تشيخوف، وجورج أورويل، وإدجار آلان بو، ووليم ثاكري، ذ وغيرهم من الأدباء الذين فتنوا بالمهنة، وعززوا فرضية التداخل الكبير بين الحقلين، وإن كانت الصحافة تعنى بالواقع وترصد مشاهده بأدواتها وأجناسها، فإن الأدب يجد من خلال ما توفره مادة يثريها الخيال والأساليب الأدبية.

يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل عن هذه العلاقة «الصحافة رزق يوم بيوم، والأدب رحيق الجمال بين صفحتى الأزل والأبد، والصحافة توجيه الحاضر لما نعتقده المنفعة، والأدب تصميم المدينة الفاضلة، والتغنى بذكرها تمهيدًا لإقامتها وتشييدها..» بينما كشف الصحفى الفرنسى إيف بورتيلى وجها من المعاناة بقوله: «الأصعب هو أنك حين تشرع فى كتاب وتبدأ فى كتابة صفحة جديدة، فتضطر إلى التوقف مرغما لكتابة ريبورتاج فى موضوع آخر مختلف»

 أما الروائى يوسف القعيد وفى أحد لقاءاته قال: «فى الصحافة كما فى الأدب المادة واحدة هى الكلمة المكتوبة، لكن ما أبعد المسافة بين كلمة وأخرى، ففى الصحافة: الكتابة لغة. وفى الأدب: الكتابة خلاص. فى الصحافة اكتب لأن هناك بيتا وأولادا ومطالب للحياة اليومية، ولأن الدخل اقل من الإنفاق. ولكن فى الأدب اكتب لأن هناك هما أو أرقا أو مشكلة، الرغبة فى البوح هى الدافع الأول للكتابة. كتابة هى السماء: الأدب. كتابة ما دون الأرض: الصحافة.

ولذلك لا بد من فك اشتباك أصيل وحقيقى بين هذه وتلك. وفك الاشتباك هذا مطلوب منى حتى تأتى اللحظة المناسبة التى اترك فيها العمل الشخصى إلى الأبد».

شعارى الآن: «ما للأدب للأدب وما للصحافة للصحافة». و«لعن الله اليوم الذى عملت فيه بهذه المهنة، وقرّب يوم البعاد بينى وبينها».

اما الشاعر اللبنانى انسى الحاج فيعود له الفضل فى إثراء المحتوى الفكرى والشعرى بالعديد من الاعمال الخالدة ، ترجم خلال حياته العديد من المسرحيات المختلفة لكبار الأدباء الأجانب ،وعمل كاتبا ورئيس تحرير العديد من الصحف اللبنانية والعربية. عرض عليّه والده العمل فى جريدة «النهار» فرفض، لأنه كان رئيس تحريرها، وبدأ يتدرب عند الصحفى ​كامل مروة​ فى جريدة “الحياة”، التى كانت حينذاك من أكبر الجرائد اللبنانية والعربية، وكانت فى المرتبة الثانية بعد “الأهرام” المصرية.

تعلم الصحافة على يد كامل مروة، وبعد ذلك إستدعاه الصحافى غسان توينى ​ وسأله: “كم تتقاضى فى “الحياة”؟ انا سأعطيك 300 ليرة على أن تتسلم القسم غير السياسى فى “النهار”.

إهتم بالصفحات الأدبية وكل ما لا يتعلق بالسياسة، وفى عام 1964 أصدر الملحق الثقافى الأسبوعى الصادر عن صحيفة النهار، وبقى يصدره حتى عام 1974، وساعده فى هذا العمل شوقى أبى شقرا.

وفى عام 1992، أصبح رئيس تحرير صحيفة النهار، وهو المنصب الذى شغله والده لويس الحاج قبله، وبقى فى هذا المنصب حتى أيلول/سبتمبر عام 2003 ليعمل بعدها مستشاراً لمجلس المحررين.

الى جانب صحيفة النهار، تسلم منصب رئيس تحرير لصحيفتى الحسناء عام ١٩٩٦ والنهار العربى الدولي، ما بين عامى ١٩٧٧ و١٩٨٩، وساعد فى تأسيس صحيفة “الخبر” عام 2006، وأصبح كاتب مقالات ومحرراً رئيسياً فيها.

ومن المعروف أنّ مقالاته لم تكن تُراجع من قبل أحد، بل كان يراجعها بنفسه.

أما الكاتب اليمنى صالح البيضانى فيقول: ظلت الكتابات الأدبية تتربع على عرش الصحافة الورقية لفترة طويلة من الزمن، قبل أن تستحوذ المجالات الأخرى على نصيب الأسد من مساحات الصحف، ويشير باحثون مهتمون بتتبع أدوار الأدباء فى تأسيس الصحافة العربية، إلى أدباء تولوا رئاسة تحرير صحف مصرية شهيرة مثل: لطفى السيد الذى تولى رئاسة تحرير صحيفة «الجريدة»، ومحمد حسين هيكل رئيس تحرير صحيفة «السياسة»، وطه حسين الذى شغل رئاسة تحرير جريدة «الجمهورية» وقبل ذلك ترأس تحرير صحيفة «الكاتب المصري”.ولفترة طويلة دأبت كبريات الصحف فى مصر على الاحتفاء بالنص الأدبي، حيث كانت «الأهرام» تنشر قصائد أحمد شوقى على صفحتها الأولى، بينما تسابقت الصحف الأخرى على استقطاب أدباء بارزين للكتابة فيها، كما هى الحال مع الأديب عباس العقاد الذى ظل يكتب بانتظام فى جريدة «الأخبار».

وقد أسهم اهتمام الصحف حتى مطلع تسعينيات القرن الماضى بالأدب، فى ازدهار الحركة الأدبية وبروز أسماء جديدة، وألقى الأدب كذلك بظلاله الرشيقة على ذائقة القراء، فازدهر جيل من هواة القراءة وعشاق الكتب.

ومع اقتراب الصحافة من عوالم الحداثة والتقنية، تراجع اهتمام الصحف العربية بالأدب، وخلت صحف عديدة من الزوايا الأدبية والثقافية، أو تم وضعها على الهامش، فى الوقت الذى ازدهرت صفحات أخرى باتت محط أنظار القراء، كالرياضة والتكنولوجيا، وهو ما يعزز من فرضية أن الصحفيين اهتموا بالأدب عندما كانوا يأتون من بوابته، بينما تغيرت اهتمامات وأولويات القائمين على الصحافة العربية بعد أن أصبح جلهم يأتى من بوابات كليات الإعلام أو رحم «السوشيال ميديا»، و«المال والأعمال» و«السياسية»، وهى مجالات باتت اليوم تستحوذ على القسم الأكبر من مساحات الصحف العربية التى بات «الأدب» فى ذيل اهتماماتها.».