
هناء فتحي
«جورج الراسى» وتجلّى الموت اللبنانى
منذ الإعلان عن خبر موت المطرب اللبنانى “جورج الراسي” فى حادث سيارة مع صديقته ثُمّ المنحى المفاجئ للبعض والصادم للبعض فى طقس احتفالية جنازته المهيبة وانتهاءً بزفةِ دفنه، كل تلك الحالة اللبنانية بامتياز قد لف غرابة شمس نهارها وقمر ليلها بأربعة أرجاء وطننا العربى المُعتاد على الموت الصامت المتكل على القضاء والقدر وانتهاء العمر أوالصخب المصاحب لقتلى الحروب، وفى كل البلاد ستجد أن الموت والعزاء صارا طقسًا اعتياديًا - شوية دموع وطرحة سودة وشيخ مقرئ أوقسيس يرنم - ولم يعد الموت يربك القلب والذهن والعين كمشهد جنازة “جورج الراسي” وإن كنا قد شاهدنا تجلى إحدى صوره فى جنازة الفنانة الكبيرة صباح،حين أمرت وأوصت أن يصير موتها فرحًا وطربًا ورقصًا، لكنها كانت “صباح “ المُحِبّة للحياة حتى آخر نفس.
هنا نسأل: كيف ولماذا بدا لنا طقس موت وجنازة “جورج الراسي” مختلفًا ومخاتلًا وكأننا بصدد قراءة أحداث رواية لاتينية غرائبية فى شكل ونهج شخوصها، رواية ساحرة فى أحداثها وسردها وحوارها من الغلاف وحتى الختام.
ولماذا تركنا ما بأيدينا، تركنا كل ما كان يشغلنا وانتبهنا لـ(موت اللبناني) معلقين الأبصار جميعًا صوب الفاجعة المُذاعة لايف وصوب مشهد جنائزى مهيب لم يعتد رؤيته كثير من أهل بلداننا ،حتى أن موت “جورج الراسي” قد غطى على شكل وطقس الموت العربى العادى والذى لا يخرج عن شكل جنازة على القبر أوعزاء فى سرادق.
كان شكل وسلوك بعض الشخوص الفاعلة والمؤثرة فى سيرة “جورج الراسى” حيًا وميتًا هوما صنع تلك الحكاية ،كمثال: أخته الفنانة الشهيرة “نادين الراسي” وأمه “إلهام الخوري”، والمملوكتان بصدق حد الجنون، كان سلوك المرأتيّن يشى بأننا إزاء أجواء وأبطال رواية غرائبية من عينة الكتابات اللاتينية التى تحتفى بشكل الواقعية السحرية -بل وأحلى - أما الأحداث، أحداث يوم الوفاة / العُرس، الزفة / الدفن / القيامة، النحيب / الغِناء، الدموع / الزغاريد، كل المعانى وتضادها كانت ندية رقيقة وأسيانة رغم غرابتها وجدتها فى آنٍ معًا.
كانت أحداثًا عفويةً بلا ادعاء ولا تكلّف ولا تصنّع أمام الحشود الهادرة - فنانين ومواطنين- والكاميرات المنتشرة كحقول الكروم اللبنانية الشاسعة تسجل الحدث الذى أخرج اللبنانى للشوارع هادرًا مستنفرًا من جديد بعد حادثة انفجار المرفأ.
نعم، ولنعترف بأن جنازة المغنى الراحل كانت فرحًا عفويًا صنعهما جللُ الحدثِ وصدمةُ توقيته وفساد نخبته وملوك طوائفه، ثم لوعة أخته وأمه، كل هذه الأسباب صنعت اليوم الغريب.
صنعتها أيضًا الطبيعة الخاصة بالشخصية الشامية عمومًا واللبنانية على وجه الخصوص فالموت لا ينفى الحياة، والغناء والزغاريد لا تعنى البهجة أوالفرحة أو الشطط أو اللامبالاة أو الاستعراض أو الخروج عن النص الدينى كما أساء البعض فى أقوالهم وآرائهم، بل تعنى أن الروح قد امتلأت بـ(رواسب الحزن المتكلس).
لم تكن نادين وأمها مجنونتين: لم تكن أمه العجوز ضئيلة الحجم فى فستانها الأسود الكات تمارس بعض لحظات خرف يفرضه العمر، كانت السيدة الحنون الملتاعة والمذبوحة “إلهام أم جورج” وهى محمولة على أكتاف المشيعين وتحمل على يديها صينية طعام لمرقد ابنها وتضعها بجوار جسده المسجى، الطعام الذى يحبه “ضناها” حتى يأكل حين يجوع، إنه قلب الأم، و”نادين الراسى” التى حرصت أن يرتدى الميت بدلته وليس كفنه، إنه قلب الأخت، إنه تراث الموتى فى أماكن كثيرة بالكون الشاسع بلغاته ودياناته وعقائده وعاداته وتقاليده ألم نقرأ كتاب الموتى؟ وكيف كان الأقدمون يتركون القمح فى حجرة الموتى ليأكلوا حين يجوعوا أوحين تقوم قيامتهم؟ ألم نقرأ سير البلاد والحضارات التى لا تزال حتى الآن فى شرق آسيا تدفن موتاها فى البيوت بلا أكفان، وفى ذكرى الرحيل من كل عام توقظهم وتلبسهم ملابسهم وتجلسهم فى بهو البيت أوالحديقة ويمدون أرائك الطعام ويجلبون فرق العزف والغناء، انها احتفالية الموت والحياة المستمرة والأبدية، فلماذا يستنكر بعضنا اختلاف الآخر عنه؟
لم يكونوا مجانين، أخت الميت وأمه والمشيعيين لم يكونوا مجانين بل كانوا مفجوعين حد الذبح.
أيضًا كان مشهد جنازة “جورج الراسي” سياسيًا حين فضح الوضع اللبنانى المزرى: الفساد والإهمال والانفصال والتفسخ ما بين الشعب ومابين عصبة من يديرون شئونه، موت الراسى فضح ملوك / عبيد الطوائف، وضع موته الخرافى لبنان فى مرآة العالم وكان خيرًا من كل المؤتمرات الدائرة والحوارات العبثية بين ملوك الطوائف ومن يديرونهم من وراء ستار سواءً فى فرنسا أوفى دولة الاحتلال أوغيرهما
كان موته هوالمُتفقٌ عليه الوحيد فى بلد متشعب ومتفسخ بآلاف الآراء
كان موته يشبه لبنان الجميلة القديمة الموحدة باختلافاتها التى كانت.
“جورج الراسي” المطرب اللبنانى الراحل صباح السبت 27 أغسطس بأغنياته وبحياته الغرائبية و بخربشات صوته المجروح والجارح لم يمت صغيرًا منقوص التجربة الفنية، ولم تكن حياته قصيرة ولا عادية، إذ أن طريقة وشكل وملابسات موته قد منحوته شهرة ما كان ليحصل عليها إلا بعد عشرات الأعوام.