الإثنين 25 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
 بتوقيت جيلان

بتوقيت جيلان

ستوقعك فى أكثر من شَرَكْ: تلك الرواية المصنوعة بحرفية و(بمَعْلَمَة) والمكتوبة بلغة رصينة وساحرة، والمرسومة شخصياتُها بمهارة والمكتوبة حواراتها بدقة وبميزان دون تَزَيّد  أو استعراض أو إطناب أو سفسطة: أما الشخوص العائمة والطافية بلا شطئان  وحتى تلك الغارقة، الغارقة فى سرد تبدأ فصوله أحيانًا بصوت الراوى وأحيانًا بصوت الأبطال: ستجعلك ترتبك محاولًا فك الاشتباك بين الراوى وبين الشخوص، وستسأل: أيهم المؤلف وأيهم الراوى وأيهم الشخصيات الأساسية والثانوية؟ وأيهم القارئ؟ لتدرك مع انتهاء الرواية أنهم جميعهم - ونحنُ معهم - ذات الشخص الواحد، وأنهم  يعيشون ويموتون، يعشقون ويكرهون، يثورون ويخونون ذواتهم والآخرين، كل ذلك بميقات و(بتوقيت جيلان)  (بتوقيت جيلان) هو اسم الرواية وآخر أعمال القاصة والشاعرة والروائية والناشرة «سماح الجمال»، قد صدرت لها من قبل مجموعتان قصصيتان ورواية وديوان شعر واحد.



ملحوظة أولية: لا أدرى إن كان يسعد القارئ أو سيشقيه توقعه بأحداث  النهاية، لأنه -ربما - مثلى أنا، سيُخمّن القارئ السر وراء فشل قصة حب البطلة دكتورة «جيلان» لابن خالتها دكتور «هشام» -هذا أول شَرَك بالعمل -  سيخمن القارئ السببَ وهولا يزال فى منتصف صفحات الرواية، فالبطلة  قد وقعت فى غرام أخيها دون أن تعلم أنه أخوها، أقامت الأم علاقة مع زوج أختها فأنجبت ابنة صارت أختًا لأبناء خالتها دون أن يعرف الأبناء السر، ولما أحبت البطلة أخاها وقفت الأم الخائنة فى وِشْ الجوازة دون أن تبرر لابنتها سببًا مقنعًا للرفض - وسيُخَمّن القارئ أن والد «جيلان» الذى رباها وليس الذى أنجبها والذى كان يتحسس جسدها ويشتهيها وهى صبية يافعة ليس والدها الحقيقى وأن زوج خالتها هو والدها الأصلى، ربما قصدت المؤلفة ذلك، قصدت أن تكشف لنا أوراقها منذ البداية، ربما قصدت تسهيل الأمر على القارئ لأنها لا تكتب ألغازًا بل نصًا إنسانيًا مشحونًا بمشاعر ويمثله شخوص  محطمة ساقطة فى أمراضها النفسية وفى هُوّتها ودوامتها وخيالاتها ومربعها الصغير المحدود المغلق عليها، ولأن الكاتبة «سماح الجمال» منذ بداية الصفحة الأولى بالرواية  تخاطب القارئ وتُشرِكه معها فى النص لذا مهدت «سماح الجمال» للقارئ  بعرض كل شخصية بمنزلقاتها وخطاياها، بكل ما يجرح وجهها البريء والمُصطَنَع، فجميع الشخوص ذات حيثية ومكانة وتأثير وهى شخصيات ثرية - بالغة الثراء، تشغل وظائف كبيرة فى المجتمع، أولئك الذين  يطلق عليهم الكريمة والصفوة والناس اللى فوق الذين يتبوأون مكانة ووضعًا  مهمًا فى السلم الاجتماعى، جميعهم فى النص الروائى وجوه معروفة وضيوف فى البرامج والفضائيات، وبعضهم من صناع المحتوى، طبعًا هم ليسوا شخصيات حقيقية بل محض كتابة روائية، أو تخمينات، وإن تماست بعض الشخوص مع الأحداث الحقيقية فى البلاد وكانت غير منفصلة عن الواقع.    

ورغم ذلك لن تجد شخصًا بالرواية من طبقة الكادحين أو مهمشًا ولا حتى من الطبقة المتوسطة، الرواية لا تعبأ بهؤلاء الناس!  

هل هذا مقصود؟ نعم مقصود، وذلك حتى بجيء الحديث فى بعض صفحات الرواية عن الثورة، يأتى الكلام عرضًا كأننا نعرف خبرًا عن بلد بعيد لا يخص أبطال العمل، فـ (جيلان) وأهلها وأصحابها ومرضاها ليسوا صناع ثورات  ولا داعين لها، بل هم ضحاياها وأول أهدافها.

ويأتى الكلام عن الثورة كظلالٍ لا تبين لألوان فاقعة: كخلفية باهتة للصورة، مع أن البطلة/الراوية جعلت من الثورة متكئًا للشخصيات جميعها دون تماس أو تقاطع أو تغيير فى أقدار الأبطال، هم يتحدثون عنها من طرف اللسان و(طرف المناخير) لا يعبأون بها، بعضهم استفاد منها.    

ثمة شرك بالرواية سوف يسعدك كقارئ حين تكتشف منذ الصفحة الأولى أن «جيلان» دكتورة الأمراض النفسية وبطلة العمل وراوية معظم صفحاته الـ213 ليست هى الأخرى سوى مريضة بمرض نفسى أشد فتكًا وأكثر إلحاحًا وأكثر شقاءً من كل مرضاها الكُثُر الذين ترددوا على عيادتها طلبًا للشفاء. وبعضهم ساعدها على البوح  وأجلسها على الشيزلونج، وحاول علاجها، ونجح فى ذلك، دائمًا نحن لدينا شكوك فى الحالة النفسية والقوى العقلية للطبيب النفسى، وها هى المؤلفة تؤكد ظنوننا، إذن علىٰ هذا النحوعاشت البطلة جيلان مأساتها وهى تحمل عقدة نفسية واضطرابًا واضحًا فى السلوك وتكره والديها دون أن تعلم السبب، وتكره مهنتها التى أُجبِرت عليها وعلى دراسة  الطب وقد كانت تحلم بدراسة الأدب العربى لتكون أديبة ذات شأن وصيت تكتب القصص والروايات، وفى لحظة قدرية كاشفة وفارقة تُغلِق عيادتها وتغيّر مهنتها وتسرع فى كتابة رواية منطلقة من حكاية لأحد مرضاها المضطربين ذهنيًا، الذى قتل والدته وقد شاهدها تخون والده بعينيه.

تمنيت أن تختار البطلة الطبيبة فى النص الأدبى «جيلان محمود» اسمًا لروايتها يكون هو نفسه اسم الرواية الحقيقية التى نقرأها ونتحدث عنها الآن والتى كتبتها «سماح الجمال» وعنونتها بـ(بتوقيت جيلان) وليس العنوان الذى كتبته «جيلان» بطلة الرواية (قيامة بداخلى) لأننا شركاء فى النص الأدبى المدهش هذا. 

ثمة شرك أكثر وعورة يكمن فى الهوة بين الظروف الاقتصادية والمادية المرفّهة التى يعيش فيها كل أبطال العمل بلا استثناء وبين أسباب قيام الثورات التى تأتى إلحاحًا لأجل الفقر والجهل والمرض والذى لا يعانى أبطال الرواية جميعهم منه، لذا كانت الثورة كالشبح غير المرئى وإن تركت تأثيرها على الآخرين الذين لم يأتِ ذكرهم فى النص الأدبى، ونتساءل  هُنا: لماذا جيء بالثورة فى النص؟ هل كان من الممكن حذفها واستبدالها بأى حدث سياسى آخر؟.. الحقيقة لا، والأسباب كُثُرْ… أحد الأسباب هو رؤية الكاتبة للثورات، وهوما كان يتردد على لسان البطلة الطبيبة النفسية «جيلان محمود» من أن الثورة تبدو هى الأخرى عليلة مريضة  مثل كل مرتادى عيادتها وأن من قاموا بها ومن قامت لأجلهم ومن عايشوها جميعهم مرضى، وأن الثورة تحتاج إلي رعاية نفسية شاملة مثلها مثل الكائن الحى  وأنها تعيش وتموت وتشقى وتسعد إذا أتيحت لها نفس البيئة المطلوبة لأيّ كائن حيّ، وأن الأوطان تمرض وتشقى كمواطنيها، هل ثمة شَرَك أخير لم يقع فيه القارئ؟ 

-شرك الرواية البديعة 

فى نهاية الرواية لن تستطيع أن تفصل نفسك عن أبطالها وستظن أن المؤلفة قد كتبتك فى النص باسم مستعار وأنها هى الأخرى واحدة من شخوصها البارزين، وأنك شاركتها فى كتابة الرواية ولسوف تقع مثل شخوصها جميعًا فى شرك الإحباط واليأس حينما تتشابه وتتماثل ظروفك العاطفية والنفسية - ليست المادية والاقتصادية بالطبع - مع ظروف الأبطال،  جميعهم بالرواية: جميعهم يبحثون عن الحب، وجميعهم غارقون فى بحار من الوحدة والفشل العاطفى، لم ينجُ منهم أحد، لم ينجُ منا أحد.