من خيال أسطورة ألف ليلة وليلة إلى إبداع وليد عونى بالعصر الحديث
«شهرزاد كورساكوف»

هند سلامة
ارتبطت قصة شهرزاد بالخيال الدائم عن «ألف ليلة وليلة» المجلد الأشهر عن حكايات القصص الشعبى الأسطورية، عن هذه المرأة الذكية التى استطاعت برجاحة عقلها وحكمتها السيطرة على تهور الملك شهريار ومنعه من قتلها، بعد أن انتهجت أسلوب تأليف القصص والحكايات من الشرق والغرب لتثير شغفه واهتمامه وتجعله فى حالة انتظار دائم للحكاية التالية، وبالتالى انتصرت شهرزاد على عنف الملك الغاضب بعد أن اهتدت إلى الحكمة التى ابقتها على قيد الحياة!
فى عرض «شهرزاد كورساكوف» عند المخرج والمصمم وليد عونى هل احتاجت شهرزاد إلى حكمة للبقاء على قيد الحياة؟!.. قدم عونى شهرزاد خلال يومين على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا لفرقة الرقص المسرحى الحديث، وكان له رأي آخر فى خياله عن شهرزاد التى خرجت من خيال الأسطورة الخالدة ولعبت فى خياله لتكوين شكل آخر ورواية أخرى فى ذهنه بأجساد راقصيه، رأى عونى شهرزاد كما لم تتوقع أن يرها، قد يتوقع المشاهد أن يروى العرض أجزاء من حكايات «ألف ليلة وليلة» أو قد يروى قصة ورواية شهرزاد المعروفة والتى اعتدنا رؤيتها غالبا، بينما كانت «شهرزاد كورساكوف» لمبدعها وليد عونى ذات بهاء جديد وحضور مختلف بالرقص الحديث.
بدأ العرض بداية عصرية لنساء يرتدين ثيابا ترجع إلى حقبة الخمسينيات وستينيات القرن الماضى تتوسطهما جارية جاءت بينهن من عصر سحيق تؤدى رقصة «ألف ليلة وليلة» وتطوف بينهن ثم تحوم حول رجل يجلس على كرسى يشبه كرسى العرش ارتدى ايضا ثيابا عصرية ونرى خادما يقوم بتنظيف أرضية المسرح وبين هذه الرقصات المتنوعة والأحداث والصور المتتالية فى مشهد واحد تتبدل الأوضاع على يد مسرور ومسرورة يرتدى الخادم ثياب الملك ويقتلان الملك شهريار العصري، ثم ندخل فى خيال روائى آخر ونذهب إلى عصر من عصور ألف ليلة وليلة، تختفى الراقصة وتظهر شهرزاد تتناثر الأدوار وتتعدد اللوحات الراقصة التى تطوف بنا إلى عالم خيال وليد عونى مستعينا بخيال وصور خاطفة ولمحات سريعة من «ألف ليلة وليلة يعضد بها خياله الجامح جموح الخيل فى الإستعانة بأحد شخصيات التراث الأسطورية «شهرزاد»، وإبداع ونسج أفكار حولها من قصص حب فى أراض مختلفة إلى صراع على حب بين حبيبة الخادم القديمة والتى تلعب دور الراوى لحكاية «ألف ليلة وليلة» وكأن الأحداث تروى من خلالها حتى تغلق الكتاب مع نهاية العرض، فهذه الفتاة تحكى الصراع الذى دار بينها وبين شهرزاد حول حبيبها والتى فازت به شهرزاد فى نهاية المطاف ثم اجتماع الأحبة من بلاد الصين والهند وإيران وتركيا وهى الأماكن التى دارت بها أو يقال أنه خرجت منها حكايات ألف ليلة وليلة.
تحولت شهرزاد على يد عونى من امرأة تبحث عن فعل يضمن لها الحياة والبقاء إلى امرأة باقية خالدة على مر العصور استطاعت مقاومة كل مؤامرة والتغلب بصبر وحكمة على ألوان الشرور حتى ولو بابتسامة هادئة كما أراد أن يرمز المخرج مع اقتراب نهاية العرض بوضع لوحة الموناليزا، فهنا شهرزاد ليست السيدة الضعيفة المقهورة التى تبحث عن سلاح يمنحها البقاء بل كانت امرأة قوية مقاومة انتصبت للدفاع عن عرشها وحبها أمام كل مؤامرة، رأى بها عونى أن لكل امرأة ناجحة حكمة وسلاح على مر العصور حتى ولو تجاوز رواية الأساطير والحكي! كما أعاد صياغة استخدام السياف مسرور وانقسم إلى رجل وامرأة مسرور ومسرورة هما يحيكان المؤامرات دائما لفعل ما يروق لهما حتى ولو كانت المؤامرة ضد شهريار نفسه فهما رمزا الشر بشكل عام.
اتسم هذا العمل الفنى بحالة من الروعة والضخامة الفنية سواء فى شكله وتصميمه بصريا أو فى سعى المخرج إلى استخدام أوركسترا للعزف الموسيقى الحى وهو ما منح العمل حالة من الفخامة والبهاء فى اكتمال صورته، تبنى الموسيقى مع حركة أجساد الراقصين صورة وخيال فنى آخر تذهب بالمشاهد والمستمع إلى عالم الأسطورة وكأنه عرج مع موسيقى كورساكوف الدقيقة فى تصوير الحالة الوجدانية والأسطورية لحكايات ألف ليلة وليلة وكأنك ذهبت معها إلى هذا العالم السحرى الكبير، أضاف إلى هذا السحر وجموح الخيال لوضع المشاهد فى أحداث اسطورية بالصورة البصرية المبهجة والمبهرة التى خرج عليها العمل الفنى فى أدق وأجمل ما يكون من تصميم الملابس شديدة الإتساق مع العصر والزمن والبلدان المختلفة التى ذهب بها عونى مع راقصيه واختيار الألوان وكذلك الديكور والإضاءة الراقصة بأنوارها والعاكسة لكل تفاصيل العرض من حركة وايماءة وحالة وجدانية وشعورية أرادها المخرج وابدعها الراقصين فى لوحات جماعية وثنائية تطلبت جهدا حركيا كبيرا لتقديم مفردات تتوائم مع الحالة الفنية والفكرية والتى افصحت عن القدرات الفنية للفريق فى صورة رفيعة المستوى.
فى «شهرزاد كورساكوف» خرج فريق الرقص الحديث فى حالة من الوقار الفنى الكبير، اتسقت وانسجمت الحركة فى دقة واتقان بالمشاهد الجماعية والثنائية والفردية، كان الجميع يؤدى عمله على قلب رجل واحد فى أبهى صوره، جاء على رأسهم ابطال العرض شيرلى أحمد فى دور شهرزاد والتى بدت كفراشة طائرة محلقة فى سماء المسرح الكبير اتقنت وابدعت شيرلى فى أداء دورها لعبت وأدت المزيد من المفردات الحركية شديدة التعقيد بليونة وخفة وضبط ايقاع الحركة مع عزف الأوركسترا بدقة ومهارة واتقان على مدار العرض بالكامل، وكأنها بالفعل أحد الراقصات القادمات من عالم وخيال الأساطير، شاركها الإجادة والإتقان نادر جمال فى دور شهريار وكذلك رشا الوكيل فى دور مسرورة كما لم تكتف رشا بإجادة حركتها الفنية بمهارتها المعهودة ودقتها وتركيزها الدائم بل أضفت لمحة تمثيلية على أدائها المتقن مما أضاف للشخصية بعدا آخر مع مهارتها الجسدية وكذلك على يسرى فى دور مسررو اهتما معا بإضافة حالة من الأداء الدرامى على الشخصيات مما منح دورهما بعدا أحيا الجانب الدرامى بالعرض الراقص، ثم يأتى جميع المشاركين بالعمل على اختلاف أدوارهم مثل ميشا شهريار القصة عمرو بطريق عصفور الحب، وباقى أعضاء الفريق الذين لعبوا بمهارة ودقة واجادة المحترفين على حادثة عهد معظمهم بالرقص الحديث حتى خرج العرض فى صورة مسرحية مبهجة ومبهرة منهم يمنى مسعد راقصة ألف ليلة وليلة حبيبة سيد شهرزاد القصة، وآخرون لم تتسع المساحة لذكر الجميع الذين أعادوا للفريق رونقه وبهائه فى ساعة ونصف الساعة كنت على موعد مع متعة حسية وبصرية التحم فيها الرقص والتشكيل والموسيقى، أبدعها وليد عونى وكأنه يقدم بناء للوحة تشكيلية بأجساد حية على خشبة المسرح رسم بريشته مستخدما الألوان والنور فى احياء أبطال لوحاته بالعزف الموسيقى الحي، فأصبحت «شهرزاد» حية ترزق بأنامل عونى بالعصر الحديث، العرض تصميم ديكور وملابس وإخراج وليد عوني، موسيقى نيكولاى ريمسكى كورساكوف، تصميم إضاءة ياسر شعلان.