
هند سلامة
«ليديا تار»..المرأة صاحبة الاستثناء
اقتحمت «ليديا تار» بجسارة عالم الرجال فهى قائد أوركسترا من طراز رفيع.. كما أنها من يلعب دور القائد أو المايسترو فى الحياة العملية بشكل عام.. وحياتها الشخصية بشكل خاص؛ تبدأ «تار» المرشحة لستة جوائز أوسكار من بينها جائزة أفضل ممثلة لكيت بلانشيت تدريجيا فى تعريفنا ببطلته بإيقاع هادئ رزين يشبه إيقاع الموسيقى التى دأبت عزفها وقيادتها والتدريب عليها.
إذن من هى «ليديا تار» يستعرض أحد مقدمى البرامج بالفيلم سيرتها الذاتية الغنية بالكثير من المهام والمعلومات والإنجازات الكبرى فى مجال الموسيقى حتى إنها حققت شهرة دولية واسعة وأصبحت أول قائد أساسى لأوركسترا برلين؛ ثم نبدأ فى التعرف على جوانب أخرى من حياتها الشخصية المتماسة مع حياتها المهنية بشكل مباشر فميولها الجنسى تجاه النساء جعلها تستغل سلطاتها كقائد فى الإيقاع بهن للدخول فى علاقات متعددة وسنكتشف تدريجيا مع مرور الأحداث أن «تار» تسببت فى انتحار إحدى المتعلقات بها عاطفيا؛ فأصبحت تلاحقها الفضائح والاتهامات باستغلال منصبها فى تحقيق مصالح شخصية.
يبدو الفيلم استثنائيا فى أكثر من اتجاه؛ الاتجاه الأول فى تناول الفكرة بشكل عام عن امرأة احترفت القيادة وهو شىء غير مألوف فى عالم النساء؛ الاتجاه الثانى تقديم نموذج سلبى لامرأة سحاقية وهو شىء غير مألوف حاليا؛ معظم الأعمال السينمائية التى تتناول هذه القضية تقدمها بشىء من الحساسية؛ عادة ما تظهر بطلات تلك الأعمال شديدى الحساسية والتأثر مما يجعلهن يتركن شريكهن الذكر ويذهبن إلى من هن أكثر ألفة من بنى جنسها؛ يظهرن هؤلاء البطلات غالبا ضحايا أو ربما هاربات من علاقات عاطفية غير مرضية؛ تجنح سماتهن الشخصية إلى الاقتراب من الكمال فى الشعور الدائم بالضعف الأنثوى والاحتياج.. أو بمعنى آخر لا يعرض الفيلم جانبًا سلبيًا فى سماتهن الشخصية وكأنهن يعشن بأجنحة الملائكة مما اضطرهن للهرب إلى هذه العلاقات بحًثا عن التوافق الروحانى مع الشريك المتوافق جنسيا.
لكن فى «تار» كان المخرج والمؤلف تود فيلد أكثر جرأة واقتحاما وتكسيرا لمعايير الصوابية السياسية فى مناقشة وطرح قضايا السحاقيين بالأعمال الفنية؛ قدم «تار» الشخصية النرجسية التى تهتم فى المقام الأول بتحقيق مصالحها الشخصية والمهنية وفور انتهاء متعتها من الطرف الآخر تتخلى عنه تمامًا بحثا عن متعة جديدة؛ كل من حولها مجرد أدوات فى يديها تستخدمهن كيفما تشاء؛ بقدر ما تجرأ الفيلم وطرح نموذجًا مغايرًا للمثلية الجنسية إلا أنه قد يبدو ذكوريا فى جانب من طرحه إلى حد كبير.
كما سبق وأن ذكرنا اقتحمت «ليديا تار» عالم الرجال فى مجال قيادة الأوركسترا؛ ولأن الفكر الشائع عن هذا الفن أنه قد يكون حكرًا على الرجل قدم امرأة ترتدى ثياب الرجال؛ فهى رجل يسير على قدمين؛ فى هيئتها الشكلية والجسدية ..طريقة حركتها.. جلستها ..ملابسها إخفاء ملامح جسدها الأنثوية حتى فى المشهد الذى بدت فيه عارية تم تصويرها من زاوية بعيدة حتى لا تظهر تفاصيل جسدها كامرأة؛ وفى العلاقة الجنسية تلعب «تار» دور الرجل دائما؛ لماذا اضطرت هذه المرأة أن تتجرد من أنوثتها كاملة حتى تصبح قائدا للأوركسترا؟! كما نراها تلعب دور القائد فى الحياة الأسرية فهى الأب للفتاة الصغيرة.. متعددة العلاقات وتستغل سلطاتها مثل الرجال أحيانا.. تخلقت تماما بخلق الرجال؛ وكأن القيادة لا تصلح سوى للرجال أو لامرأة حين ترتدى ثياب الرجال!
يقدم الفيلم رسالة ملتبسة قد تحمل الكثير من الرسائل الضمنية المختلطة لامرأة قررت أن تكون استثنائية فى كل شىء؛ وبالتالى قررت معها كيت بلانشيت أن تكون ممثلة استثنائية بكل المقاييس لم تتوقف عند حد الإتقان التقليدى بينما تجاوزت الحد فى الحرص على كل ملمح من ملامح هذه الشخصية..بدءًا من التحكم فى ضبط إيقاع نفسها مع العزف الموسيقى ونهاية بحركة جسدها ثم حركة يدها التلقائية المجاورة لأذنها التى بدت شديدة الحساسية للأصوات من حولها وكأنها فى حالة ترقب واستماع وقيادة دائمة؛ لعبت بلانشيت دورها باعتبارها تقدم حالة فنية وليس مجرد دور ممثل فى عمل فني؛ عاشت حالة هذه السيدة الغريبة بكل تفاصيلها الداخلية والخارجية فى ترجمة مشاعرها وفكرها تجاه الموسيقى بانفصالها وتوحدها وجدانيا أثناء القيادة ثم فى شرح معلومات دقيقة عن الموسيقى وعالمها الخاص؛ «تار» امرأة استثنائية تقود صاحبتها إلى التربع على عرش الأوسكار بامتياز.