السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«شتات» عندما يفقد المبدع التواصل مع الجمهور

     يعتبر المسرح فى الأصل فنا جماهيريا؛ قاعة صغيرة أو كبيرة تحتوى على مجموعة من المقاعد يجلس فيها الجمهور لمشاهدة عملا فنيا أى كان انتماؤه الفكرى أو النوعي؛ لذلك من المفترض أن تتحقق حالة من التواصل بين المبدع والجمهور تاركا أثرا فكريا.. نفسيا.. أو حتى أثرا فكاهيا باعثا على الضحك والترويح عن النفس؛ لكن عندما يفقد المبدع آليات التواصل مع جمهوره؛ تبدأ أزمة الدخول فى جدل تقديم أعمال جماهيرية للجمهور العادي؛ وأخرى للمتخصص صاحب القدرات الأعلى فى التلقى واستنباط معان خفية من وراء النص؛ حتى ننفى عن عروض بعينها جماهيريتها لعجزها عن التواصل مع المشاهد بحجة خضوعها لتأويلات وتفسيرات فلسفية أبعد من مستوى عقل الجمهور العادى!



«شتات» العمل المسرحى الذى قدم مؤخرا على خشبة مسرح الهناجر للفنون يخضع للأسف إلى هذه الإشكالية الفنية؛ هل هو عمل فنى جماهيرى أو عمل تجريبى للجمهور المتخصص؟ وهل هناك فارق بينهما؟!! فى الواقع كلاهما يحمل صفة الجمهور وبالتأكيد يخضعان لتقاليد الفرجة المتعارف عليها مع الإحتفاظ بالفروق الفردية فى مستويات التلقى بضرورة تأويل هذه الأعمال وتفسيرها منهجيا.. لكن فى النهاية كلاهما جاء من أجل التفكير والاستمتاع؛ وإذا فشل العمل فى تحقيق عنصر المتعة حتى ولو تناول قضية مؤلمة أو قضايا وجودية.. خسر رهان التواصل والمحافظة على استبقاء جمهوره إلى حين انتهاء وقت عرضه تتلاشى الرغبة فى استمرار المشاهدة ويخسر المبدع النوعين سواء العادى أو المتخصص؛ وإن كان التمييز فى تحديد وتقسيم الجماهير إلى أنواع ضد فلسفة صناعة المسرح من الأساس من حق الجميع الاستمتاع والحضور والتأويل، ومن واجب الفنان امتلاك المهارات الإبداعية لإيصال رسالته مهما حملت من عمق فكرى وأبعاد فلسفية.

    «شتات».. عمل مسرحى حمل فى تكوينه شتاتا فنيا أكثر ما تضافرت عناصره لتعبر عن فكرته أو فكر المؤلفة رشا فلتس التى تتناول أحوال أربعة أشخاص حبسوا معا فى قبو واحد مكان منفر جمعهم فى حبس طويل وعلى كل منهم تحمل الآخر ومحاولة قبوله؛ شخص لا يعبأ سوى بممارسة الجنس وملاحقة النساء؛ وآخر لا يريد شيئا من الحياة والثالث يتسأل عن وجوده وذنوبه وامرأة تأتى وتذهب تبحث عن مخرج لنفسها والنجاة من استغلال أحدهم لجسدها فهو لا يرى فيها شيئا سوى أنها مجرد امرأة.

فى حوار مبتور غير مترابط لا تجمعه رؤية واضحة سوى هذا الشتات؛ قدمت المؤلفة نسخة هزيلة وربما سطحية من نص «جلسة سرية» لجان بول سارتر؛ مجموعة من الأشخاص حبسوا فى مكان واحد فشل كل منهم فى تقبل الآخر؛ ليس هناك أبعاد واضحة وتفاصيل لكل شخصية ورؤية عامة تجمع هؤلاء لولادة الصراع بينهم؛ حتى إذا افترضنا أن الكاتبة تحررت من الكتابة الدرامية التقليدية؛ للتحرر أصوله وقواعده التى لا تنفصل عن قدرة المبدع على امتلاك لغة فنية تمكنه من التواصل مع جمهوره وإن اقتصر على أهل الإختصاص وحدهم؛ فى «شتات» فقدت اللغة قدرتها على التواصل وتحقيق المعنى خاصة فى الحوارات المتقطعة بين الشخصيات التى تحمل مجموعة من الأفكار الغير مترابطة وكأن المؤلف قرر وضع تيمات عامة تمثلها هذه الشخصيات وعلى الجمهور صناعة سياق فنى فى ذهنه لهذه التيمات المتناثرة على خشبة المسرح.

حاول المخرج سعيد سليمان مع مهندسة الديكور الخروج من هذا المأزق بمحاولة حبس هذا الشتات فى سياق المشهد أو الصورة؛ أبرز ما تمكن الاثنان فى صناعته والنجاة بهذا العرض من ضعف الكتابة الدرامية كانت الصورة المسرحية؛ ابدعت مهندسة الديكور نهاد السيد ومصمم الإضاءة أبو بكر الشريف فى صناعة صورة بصرية جاذبة، ديكور يخطف عين الجمهور مع دخول قاعة المسرح وتعبيره عن فكرة السجن داخل مكان غير آدمى بكل ما احتوى عليه هذا القبو من مظاهر منفرة أقفاص؛ سلالم خشبية، تروس، أحبال، كان الديكور أبلغ فى التعبير عن الأفكار المبهمة التى جاءت فى حوار مدغدغ غير مكتمل جمع بين اللغة العامية والعربية الفصحى بلا مبرر أو حرفة فى الجمع بينهما على لسان أبطاله؛ ربما كان الديكور باعثا على التأمل والتفكير أكثر من النص المكتوب؛ قد يوحى للمشاهد بأفكار لم تكتب بعد.

كما بذل الممثلون جهدا كبيرا فى الخروج بسياق أو ابعاد لهذه الشخصيات حتى يستعرض كل منهم موهبته، وإن كان خضوع أداء الممثلين للتحليل فى عمل كتب بهذا الضعف يعد ظلما كبيرا؛ قد تشفق على هذه المواهب من وضعها فى هذا المأزق الفني؛ كان على رأسهم الفنان ياسر أبو العينين الذى تفنن فى استجماع خبراته ومهاراته بفن التمثيل حتى يخرج من هذا «الشتات» بحالة من ورائه صنع لنفسه طريقا ومخرجا لهذه الشخصية؛ ساهم أداؤه مع أداء الممثلين فى المحاولة لإنقاذ العرض من التفكك الدرامى الواضح ومعالجة عيوب الكتابة بوضع الجهد الأكبر فى استعراض المهارات التمثيلية؛ لكن فى النهاية يبقى الأساس الذى يبنى عليه الممثل تصوره ومهاراته فى لعب الشخصية هو البناء الدرامى المحكم إذا اختل أو أصابه اهتزاز أصبح الممثل حائرا ومنهكا فى محاولة خلق معنى أو حالة فنية تستبقى الجمهور جالسا لمتابعة ما التبس عليه من «شتات»!! شارك فى بطولة العرض عمرو نخلة؛ حسن عبدالعزيز، مصرية بكر؛ ديكور وملابس نهاد السيد.