الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

عاش قرنا من التناقضات الفكرية ومات فاقدا للأمل والحياة

رحيل الكاتب العالمى ميلان كونديرا المشغول بهوية الإنسان وأزماته

رحل عن عالمنا أمس الكاتب التشيكى ميلان كونديرا عن عمر يناهز 94 عاما فى باريس بعد صراع مع المرض،ولد كونديرا فى مدينة « برنو»  التشيكية فى الاول من إبريل عام 1929 لكنه هاجر إلى باريس عام 1975 عقب انتقاده الغزو السوفيتى لتشيكوسلوفاكيا عام 1968.. تعلم ميلان العزف على البيانو من والده، ولاحقاً درس علم الموسيقى والسينما والآداب، تخرج فى عام 1952 وعمل أستاذاً مساعداً، ومحاضراً فى كلية السينما بأكاديمية براغ للفنون التمثيلية، نشر أثناء فترة دراسته شعراً ومقالات ومسرحيات، والتحق بقسم التحرير فى عدد من المجلات الأدبية.



التحق بالحزب الشيوعى فى عام 1948، وتعرض للفصل عام 1950، وعاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب، ثم فُصل مرة أخرى عام 1970.

ونشر فى عام 1953 أول دواوينه الشعرية لكنه لم يحظ بالاهتمام الكافي، ولم يُعرف كونديرا ككاتب مهم إلا عام 1963 بعد نشر مجموعته القصصية الأولى «غراميات مضحكة». واشتهر كونديرا بفلسفته التى أظهرها فى مجموعاته الروائية والقصصية مثل «غراميات مضحكة» فى  1963، و»كائن لا تحتمل خفته» فى 1984، التى ترجمتها إلى العربية مارى طوق ونشرها المركز الثقافى العربى، والرواية التشيكية الشهيرة «الحياة هى فى مكان آخر، البطء، كتاب الضحك والنسيان، المزحة، الجهل، الخلود، حفلة التفاهة،الهوية، غراميات مرحة، الوصايا المغدورة، لقاء،الستارة. 

ومن أشهر أقواله: « اعتقد بى ما شئت،فأنا لم آت لهذا العالم لإرضائك»اليوم يودّع كونديرا الحياة بعد أن عاشها بزخمها وزرع نبوءته فى العديدين، اليوم يغادر كونًا فاقدا للأهلية والأمل والحياة!

لن نقول وداعًا ميلان كونديرا، فموتك لا يحدثُ فى لحظةٍ بل فى تتالى الأجيال الّتى تركتَ فى وجدانها بصمةً فلسفيةً غائرةً كما تركتَ بصمتكَ فى جنس الرواية؛ وإن هذه الفكرة ليس إلّا ما قلتهُ أنت بإحدى مفارقاتكِ العميقة عن الكاتب والكتاب.

ميلان كونديرا ليس مجرَّد كاتبٍ عميق، بل هو كاتبٌ وفنانٌ وموسيقى بمعنىً ما، ذلك المعنى الكامن فى كتابه (فن الرواية) حيثُ قال إن الرواية يجب أن تكون الرواية مقطوعةً موسيقيةً متناغمة ومنسجمة. وعلى النَّاحية الأخرى سوف نذكرُ دائمًا تفاهتك الإيروتيكية وسخريتك من مجتمع (الكيتش) والوجود والسياسية وزَيف الثورة، ولن ننسى الكذبات الصغيرة الخطيرة فى مغامراتك المرحة، ولا حتى ذلك البطء البغيض وثُقل الوجود.

اليوم، بعدنما رحل جسدُ كونديرا وبقيَ اسمهُ حاضرًا؛ ماذا يمكنُ أن تتركَ رسالةً عن ميلان كونديرا؟ عن إسلوبهِ وصبغته الفلسفية لكل ما كتب؟

ويقول الكاتب محمد قريش عباس حزنت لسماع خبر وفاة الروائى التشيكى ميلان كونديرا هذا اليوم.

ركز ميلان كونديرا فى معظم رواياته وايضا فى كتابه (كتاب الضحك والنسيان) الذى يتألف من سبعة اجزاء على علاقة الانسان بذاته وفقط عندما يصل إلى ذاته, يصل إلى الآخرين.

فهو من اشد المعجبين بـ دستويفسكى فيقول عنه: انه يبدع فى شخصياته عوالم عقلية غنية وأصيلة بشكل خارق، يحلو لنا ان نبحث فى شخصياته عن أفكاره، وربما ينطبق شيء من هذا على كونديرا نفسه الذى لا نستطيع ان نتعرف اليه بشكل واضح إلا عبر شخصياته.

يقول: تعكف جميع الروايات فى كل زمان على لغز (الانا) إذ ما ان تبتكر كائنا خياليا, شخصية قصصية, حتى تواجه آلياً السؤال التالى: ما هى الانا؟ وبم يمكن إدراك الأنا؟ انه واحد من هذه الاسئلة التى تقوم عليها الرواية بوصفها كذلك.

 كونديرا ينطلق من ارضية ثقافية خصبة وهو المشبع من قراءة روايات عظماء الروائيين: مارسيل بروست ـ جيمس جويس ـ ستندال ـ جوته ـ ريتشارد سون ـ بوكاشيو ـ كافكا وغيرهم.

يقول كونديرا محاولا اعطاء صورة واضحة عن مجمل مشروعه الروائى: لقد انتهى البحث عن الانا دوما وسينتهى دوما إلى عدم اشباع غريب ولا اقول إلى فشل. لان الرواية لا تستطيع اختراق حدود امكاناتها الخاصة بها. كما ان اضاءة هذه الحدود يعتبر اصلا اكتشافا كبيرا واستثمارا ادراكيا هائلا سوى ان كبار الروائيين, بعد ان مسوا القاع الذى يقتضيه سبر الحياة الداخلية للأنا بالتفصيل بدأوا البحث بوعى أو بغير وعى، عن توجه جديد، وإن كان كونديرا يرفض ان يضف ضمن سلسلة أو قائمة الروائيين السيكولوجيين فإن رواياته لا تستطيع ان تتخلص من هذه المدرسة التى ربما تكون احدى أهم واكبر وظائف الرواية ولذلك يريد ان يشير إلى هذه الحقيقة قائلاً: لكن افهمنى جيدا، إذا كنت اضع نفسى فيما وراء الرواية السيكولوجية فلا يعنى هذا اننى أريد حرمان شخصياتى من الحياة الداخلية، ميلان كونديرا كان  واحدا من الروائيين الكبار فى العالم إلى جانب جابرييل ماركيز ونجيب محفوظ ويأتى تمييزه بسعة اطلاعه على جذور الرواية فى التاريخ البشرى.

استمتعنا بقراءة رواياته العظيمة مثل (الخلود) و(كائن لا تحتمل خفته) بأيام الشباب، وكانت بأولى أيام الكيزان تحمل استبصارات مهمة حول واقع الاستبداد وكيف يفسد المجتمع تحت قهر جهاز الدولة المؤدلج، كما كان ناقدا عظيما يبسط لك دقائق الأدب فتستطعمه بلذة شخصية أخرى عظيمة تنسرب من بين أيدينا، وتأخذ معها بعضا من إحساسنا بالحياة.

الكاتبة البحرينية شيماء الوطنى تقول رحل كونديرا عن 94 عاما بعد أن قدم عش روايات مميزة، وهو الذى كتب يوما: «لا تكن سريع التعلق فمعظمهم عابرون».

وكان يرى أن  « الجزء الاعظم من الإنتاج الروائى اليوم يُنتج بمعزل عن تاريخ الرواية: تُروى الاعترافات والتحقيقات وتصفية الحسابات، السير الذاتية، إنشاءات الأسرار والوشايات، الدروس السياسية واحتضارات الزوج والأب والأم، فض البكارات والولادات.. روايات لا تنتهى حتى نهاية الزمان دون ان تقول شيئاً جديداً، وليس لها اى طموح جمالي، ولا تُحدث أى تبديل فى فهمنا للإنسان ولا فى الشكل الروائي، وتتشابه فيما بينها، يمكن أن تستهلك كاملة فى الصباح وتٌلقى كاملة فى المساء وعن رأيه فى تواصل الأجيال يقول: 

وأنا كاتب شاب فى براغ كنتُ اكره تعبير جيل أدبى الذى كان ينفرنى برائحته القطيعية وأول مرة اعترانى فيها شعور أننى مرتبط بالآخرين كانت فيما بعد فى فرنسا حينما قرأت رواية ارضنا لكارلوس فوينتس، كيف امكن لشخصاً من قارة اخرى بعيد عنى بمساره وثقافته ان يتمتع بالوسواس الجمالى ذاته، فجعل ازمنة تاريخية مختلفة تتعايش فى رواية، ذلك الوسواس الذى اعتبرته بسذاجة، حتى ذلك الحين، انه يخصنى وحدى فقط؟

 ويؤى الكاتب صلاح بن هندى أن كونديرا روائى كبير مزج الفلسفة بالأدب وحاول أن تكون رواياته فى مصاف الكلاسيكيات العالمية، كتب فى النقد وكانت آراؤه عميقة لا سيما فى قراءةن أدب كافكا . ميلان كونديرا علامة فارقة فى كتاب هذا القرن الجديد،لأنه قادم من قرن التناقضات والحروب والأحزاب الفكرية.

 وقبل رحيله تمكنت مكتبة جديدة فى مدينة برنو، مسقط رأس الروائى ميلان كونديرا فى الجمهورية التشيكية، من الحصول على 3 آلاف نسخة من كتب الروائى التشيكى، كانت محفوظة فى شقة فى «منفاه» الباريسى.

وفتحت المكتبة أبوابها فى مطلع أبريل الماضى، تزامنا مع الذكرى الـ94 على مولد ميلان كونديرا.

وقال توماس كوبيتشيك، إن نتاج كونديرا متاح للطلاب والباحثين وجميع أولئك الذين يرغبون فى التأمل فى أعماله.

وأضاف: «فى الوقت الراهن، تضمّ المجموعة نحو 3 آلاف نسخة من كتبه، أى نحو ثلثّى أعمال كونديرا المنشورة فى مختلف أنحاء العالم والبالغ عددها 4 آلاف نسخة من كتبه فى 51 لغة».

وقالت زوجة الروائى التشيكى، فيرا كونديروفا، إن فكرة فتح مكتبة راودتها قبل 5 سنوات، ورأت فى المبادرة «خطوة تنطوى على دلالات رمزية، إذ إن ميلان ولد فى برنو ويعود إليها».

وأضافت: «يمكنه أن يرحل ذات يوم، لكنه سيبقى حيًّا فى برنو، سيأتى الناس للقائه، المنزل الذى ولد فيه يقع على بعد 10 دقائق من المكتبة».

وتمكن كوبيتشيك من نقل الكتب العام الماضى من شقة كونديرا إلى برنو، وقالت كونديروفا «لقد أعددت كل شىء، ولم يكن على توماس كوبيتشيك سوى توضيب الكتب الموضوعة على الرفوف ونقلها».

وتضم المكتبة رسومًا لكونديرا ومقالات صحفية عن مؤلفاته، إضافة إلى النسخة الأصلية لمقال من القرن السادس عشر يحمل توقيع الفيلسوف الفرنسى ميشيل دى مونتين ومغطى بجلد العجل، حصل عليها كونديرا كجائزة.

ووجهت انتقادات عديدة لكونديرا، منذ انتقاله إلى فرنسا، بابتعاده عن التشيكيين، بينما اتهمته مجلة تشيكية عام 2008 بأنه كان مخبرًا للشرطة إبان فترة النظام الشيوعى، وهو ما وصفه بأنه «محض أكاذيب».

وتم منع كونديرا-الذى انتظر حتى عام 2019 ليستعيد جنسيته التشيكية- ترجمة كتبه الصادرة بالفرنسية إلى لغته الأم..