الفنانة التونسيةجليلة بكار فى حوار لـ«روزاليوسف»: رفضت السينما والتليفزيون لأن المسرح أقوى الفنون
تونس - هند سلامة
كاتبة وممثلة حفر على جبينها علو وبهاء جبال تونس الخضراء تلك الملامح تلخص حضورها الشخصى الذى ستقرأه فى وجه التونسية الجليلة.. «جليلة بكار» تفرض نفسها وتحتل مكانتها فى قلبك بهذه العزة والكرامة والكبرياء امرأة استحقت كل إجلال وتقدير لما منحته للمسرح التونسى على مدار سنوات ولما تبنته من عقيدة فى إكبار وإعلاء قيمة الوطن على أى شيء آخر، حتى ولو على حساب مصلحتها الشخصية والفنية، تبنت عقيدة الانتماء للوطن الأم تونس، اكتفت بتحقيق النجومية بين أحضانه، فهى صاحبة مبدأ وقضية، قضيتها الأولى وطنها الذى تعتز به كثيرا، ولهجتها المحلية التى تحافظ عليها أينما ذهبت، لم تشأ ولن تشأ يوما أن تعبث بهذه اللهجة، أو هذا الانتماء الوطنى الراسخ فى وجدانها، والذى يعد محركها ومحفزها الأول على الإبداع، تمردت على شهوة الشهرة واستبدلتها بنشوة عشق الوطن، وتشارك هذا العام بعمل مسرحى جديد ضمن فعاليات الدورة التاسعة من مهرجان «دريم سيتي» بعرض «بشر» إخراج آسيا الجعايبى الذى تقدم فيه نموذجا يحتذى به فى عالم التشخيص والتمثيل.. توجهت إليها فى حى باب الخضراء الذى يحتضن كنيسة «القلب المقدس» أحد المعالم الأثرية القديمة والتى تقدم بداخله عرضها الحالي، عن العرض وفلسفة جليلة بكار فى عشق المسرح قالت فى هذا الحوار:
■ لماذا كانت القضية الفلسطينية محور عرض «بشر»؟
- فى الحقيقة أول نص كتبته فى هذه المنطقة ليس كتابة للمسرح أو ارتجالا، بينما كانت كتابة على مكتب نص «البحث عن عايدة» عام 1998، كان اقتراح الكاتب الصحفى اللبنانى إلياس خورى بمناسبة تظاهرة فى بيروت لمرور 50 عاما على النكبة اقترح على تقديم فكرة، فكرت مع فاضل الجعايبى فقال لى لماذا لا تحكى عن علاقتك الشخصية بالقضية الفلسطينية أنا والعائلة منذ أن فتحت عينى على الدنيا كانت القضية الفلسطينية قضية محورية.
■ هل هناك علاقة شخصية تربطك بالقضية الفلسطينية؟
- إطلاقا هى قضية وطن وحق، كما أن تونس التى ولدت بها عام 1952 قبل الاستقلال كان لها وضع خاص، عادة الأطفال تكون لديهم ذاكرة قوية خاصة فيما يتعلق بالمناخ الذى ولدوا فيه والعائلة، فى ذلك الوقت كانت عدة قضايا تهم المواطن التونسى مثل القضية الفلسطينية كان لها قوة وواقع كبير فى تونس أتذكر أن خال أمى شق الصحراء فى 1949 وأحب السير إلى فلسطين وغيره كثيرون، وبالتالى تشكل لدى وعى فطري، تطور هذا الوعى بتطور الزمن وبتطور الحروبات التى عاشها العالم العربي، تناولت فى «البحث عن عايدة» عام 1998 علاقتى بالقضية الفلسطينية مع الوعى الفطرى الذى تطور بمرور الزمن إلى نوع من الالتزام فأصبحت القضية الأم دائما، «عايدة» من مواليد يافا كونت عنها خيال عن طريق البحث صورت لها حياة كاملة ومسيرة متوازية مع مسيرتى فى تونس، من هذا العرض دخلت عالم التأليف بروح الممثلة وليس كأدبية، أسلوبى له علاقة أكثر بالكلمة والجملة والألفاظ مع طريقة التنفس وتقطيع الجمل والكلام هذا كله جاء من الممثلة أكثر من روح المؤلفة.
■ إذن لماذا فلسطين هذه المرة؟
- كما كنت أتحدث بالنسبة «للبحث عن عايدة» لم يكن فى ذهنى الحكى عن فلسطين، لكننا فى كل مسرحية نمر على القضية الفلسطينية لأنها من القضايا المهمة بالمجتمع التونسى الذى يؤمن بحق الشعوب والمواطنة، عندما تحدثت مع المسئولين عن «دريم سيتي» تحدثنا حول فكرة أن القضية أصبحت غير حية بين الشعوب الأوروبية، هناك نوع من التعتيم عليها فى دول بعينها مثل ألمانيا وهولندا وبلدان أخرى، أحببت التطرق للقضية بعيدا عن الشعارات الرنانة لأننى مللت من الخطب، كما أن الفلسطينيين أنفسهم يعانون من العيش بين تصنيفين البطل والضحية هم يريدون أن يحيوا كأناس عاديين، وبالتالى بعدت فى «بشر» عن الشخصيات الحنجورية صاحبة الأفكار التقدمية، «نبيهة» امرأة عادية لأقصى درجة دققت البحث لرسم بورتريه لها فى ذهني، تخيلت لها مسارا كاملا منذ الولادة حتى الممات، ثم أضفت لها شخصية سالم من الأبحاث التى قمت بها عن طريق الوثائق الفلسطينية، قدمت خلاصة إنسانية لحياة نبيهة وسالم مثل كل الشخصيات التى رأيتهم فى حياتى فى هيئتهم الخارجية أو طريقة التفكير وعلاقتهم مع الدنيا أخدوا موقفا بعد الثورة أصبح لديهم وعي آخر، عندما علمت بإصابتها بالزهايمر لم تشأ أن تفقد ذاكرة المكان لذلك بدأت بنص محمود درويش «يوميات الحزن العادي» أخدت منه مقطعا صغيرا، فى «البحث عن عايدة» أتحدث عن الذاكرة بدأت النص بجملة «الذاكرة شيء جميل وقاس فى نفس الوقت» فى عايدة كتبت عن الذاكرة النسائية والحسية بينما هنا كتبت عن ذاكرة التاريخ، سالم يخشى أن تمحى حكايته ويتشتت أبناؤه فى العالم توفيت زوجته ثم يعودون للخوف الكبير عن التلاشى والتشتت.
■ هل الممثل المؤلف يكون أمينا على النص المسرحى بشكل أكبر؟
- العمل المسرحى عمل ميدانى وجماعى تكتل من القوى متعددة الآراء والأفكار والأحاسيس وذلك ينتج أثناء عملية البروفات والتمرين هذه القوة والطاقة تتكتل للإبداع، إذا لم تتبع الكتابة هذه القوى مجتمعة سيعيش المؤلف فى عزلة عن العمل الفني، وأعتقد أن أكبر مؤلفين مسرحيين عاشوا بين الفرق فى اتصال والتصاق مثل موليير وشكسبير كانوا يحضرون البروفات بصفة مستمرة وكذلك تشيكوف.
■ هل اخترت المكان فى باب الخضراء وكنيسة القلب المقدس؟
- اخترته ولم اختره، المكان جزء من فلسفة المهرجان الذى يهتم بتقديم عروض فنية مختلفة فى أماكن لم يعتد أحد ارتيادها داخل مدينة تونس العتيقة والتى أصبحت مسجلة باليونسكو، فى العام الماضى قدمت عرضا بدار حسين وهذا العام قدمنا بالكنيسة وفى كل مرة أقدم تاريخ الشخصية مع تاريخ المكان ضمن الحكاية، كانت كنيسة وقت الاستعمار ثم أخذتها وزارة الداخلية وإذا كنا كسبنا بعض الجماهير من الحى فهذا أمر جيد لأنها تقع فى منطقة شعبية للغاية.
■ كيف تسير العلاقة مع آسيا الجعايبي؟
- اسمعها أكثر مما تسمعنى لأن الجيل الجديد واكب تطورات الدنيا العلمية والاتصالية هذا جيل الصورة والتواصل الرقمى متطور بصفة أخرى مع الصورة والسرعة والوقت والزمن اتبعها وأحاول التواصل معها.
■ لديك مستوى من الحرفة الفنية والمهارة والاتقان لم نره سوى خارج الوطن العربى ما الخبرات التى تمنح الفنان هذا القدر من الوعى فى إدراك الموهبة؟
- كانت بدايتى بفريق قفصة ثم المسرح الجديد ثم فاميليا والمسرح الوطني، لم أدخل معهد التمثيل بينما كنت من الجيل الذى بدأ من المدرسة كانت المدرسة الثانوية بتونس فيها نواد للفنون والرياضة تسمى الشبيبة المدرسية جيلى خرج من الشبيبة المدرسية، المدرسة الأولى منذ كان عمرى 15 عاما شاركت فى المسرح مع النادى المدرسى ثم المسرح الجامعى مع دراستى للآداب الفرنسية لكن لم تعجبنى التجربة، ثم انتقلت إلى التليفزيون وبعدها انتقلت مع دراستى إلى فرقة قفصة بالجنوب التونسي، المجموعة التى كنت معها شباب درسوا فى فرنسا فأصبحت عملية الارتجال هى العملية الأساسية لحصولنا على النص، نكون فكرة عامة أو سياقا عاما ثم يمنح الارتجال الروح للشخصيات، تعلمت بناء الشخصية وخلقها بالارتجال مع مجموعة من الممثلين أو المخرج خارج المسرح فاضل الجعايبى هذا توجهى فى العمل منذ البدايات حتى مع آسيا اليوم أتبع نفس الأسلوب.
■ فى رأيك هل معاهد التمثيل أصبحت غير كافية اليوم؟
- ليس لدى الحق بنقد معاهد التمثيل، من الممكن أنها تساهم فى تقديم الفنان بشكل سريع، لكن ليس من حقى أن أعطى دروسا فى الاختيارات، فى النهاية هى مدارس مسرحية وتوجهات مختلفة هناك اختيار سياسى أو فني، أو سياسة ثقافية فنية للدولة وبالتالى المسألة تتعلق بعدة معطيات تدخل فى الاختيارات، اخترت العمل بهذه الطريقة لأن الفن بالنسبة لى ليس مجرد صورة أو ظهور.
■ تصيبنى الدهشة كلما شاهدت هذا الفيض من الإبداع يكتفى بتحقيق النجومية بين خشبات المسرح التونسى فقط، هل لديك فلسفة خاصة فى هذا الالتزام والإيمان؟
- ليست فلسفة، هى شيء وجودي، أؤمن بالأرض التى تحمل ساقيا، لم أكن جليلة بكار إذا لم أكن فى تونس.. أؤمن بالتواصل ما بين بالجذور أقوى شجرة لدينا هى شجرة الزيتونة جذورها متعمقة فى الأرض تمنحك الخيرات إذا قمت بهزها لتخلعها من أرضها ستموت، بالنسبة لى أحكى عن تونس هذه البلاد بتاريخها الجميل والتعس بكل التناقضات والصعوبات والانتكاسات هذا كل ما يخلق ويعمق الشخصيات التى أقدمها مع زملائي، لم أعمل أو أنجح بمفردى حتى فى «البحث عن عايدة» كان حولى الجميع.
■ هل جليلة بكار مهمومة بالمسرح بصفة خاصة؟
- رفضت المشاركة فى عدة أفلام داخل وخارج تونس.. لأننى روح أكثر منى صورة، أحب التعبير عن الأعماق أكثر من الصورة لا أجيد التعامل مع هذه التقنيات، المسرح حقيقى وأكثر لحظة لا تعوض فهناك علاقة حميمية مع الجمهور لا تعود مرة أخرى، والأكثر من هذه العلاقة الحميمية هو يشبه السير على الخيط الرفيع مثل لاعبى السيرك، هناك فيلم ألمانى عنوانه يلائم الحالة التى أصفها يشبه لحظة الصعود على المسرح بلحظة رعب حارس المرمى قبل تلقى ضربة الجزاء، هكذا أشعر بالمسئولية الكبيرة تجاه المسرح، كيف تصل الفكرة والمشاعر والطاقة هذه مسئولية لا تتوفر بالسينما الممثل يصور مشهدا والمخرج يقدم صورته كما يحب.
■ فى رأيك هل الوسائط الفنية الأخرى قد تساهم فى اختفاء المسرح؟
- ليس هناك فن أقوى من المسرح لأنه أبو الفنون القديمة كلها، قد يهزه قليلا فن جديد لكنه فى كل مرة يستوعب هذه الفنون، يستوعب السينما، الصورة، الرقص، والفيديو كل هذه الفنون تنسجم معه، وهو فن الأحرار لأنه لا يحتاج لأى شيء سوى ممثل وممثلة.
■ لماذا صرحتِ بأن التليفزيون مقبرة الفنون؟
- كنت أتحدث عن التليفزيون التونسي، من قبل وفى فترة السبيعنيات أى عمل فنى قيم أو غير قيم كان يسجل، لابد أن توثق الذاكرة الوطنية بينما أصبحنا نتبع ثقافة الصحراء بالعالم العربى لا يتم تسجيل شيء حتى ولو تسجيل صوتي، حتى ولو لن تتم إذاعته يجب التسجيل للمحافظة على هذا التراث وهذه الذاكرة الوطنية آخر مسرحية تم تسجيلها كانت «فاميليا» سجلت 1993 وأعيدت فى 2003 مقصوصة.
■ هل لديكم رقابة على الأعمال الفنية؟
- قبل الثورة كان لدينا ما يسمى بالتأشيرة نقدم المسرحية أمام لجنة رقابة واللجنة تمنحنا تأشيرة لكن كانت لدينا عدة مشاكل فى مسرحيات «خمسون» و»يحيا يعيش» قبل الثورة.
■ ما نوع هذه المشاكل؟
- قدمنا «خمسون» 2006 بمناسبة مرور 50 عاما على استقلال تونس أحببنا تقديم نظرة فنية ورؤيتنا للممارسة السياسية خلال خمسين سنة بالبلاد التونسية تحدثنا عن المعارضة أكثر من السلطة، المعارضة بوجهيها الإسلامى واليساري، المسرحية مبنية على أربع مجموعات الإخوان والرفاق اليساريين والزملاء الشرطة الأمن هو الموكل بالمعارضة والناس العاديين، قدمت أول مرة فى باريس بالمسرح الكبير وفى جولات أخرى عالمية ثم تم منعنا من التجول داخل تونس هناك نوع آخر من الرقابة ألا يجعلك تدخلين أماكن داخل الجمهورية، هذه مقبرة الفنون كنا مع رفاقنا توفيق الجبالى ورجاء بن عمار وعز الدين قنون نعمل بالقوة لعدة مهرجانات، كنا نظن أن هذا الشكل سينتهى بعد الثورة لكن الرقابة لها عدة وجوه قد لا يكون وجه رسمي، هناك وجه آخر غير رسمى رقابة مالية مثلا «مدام إم» لم نقدمها كما أحببنا.