النقطة العامية
محاكمة الضمير فى ليلة عاصفة بين الحلم واليقظة على مسرح الغد
هند سلامة
«النقطة العامية».. بحسب التعريف الطبى هى حجب مجال الرؤية نظرا لعدم وجود مستقبلات للضوء؛ فى هذه النقطة يكون الجزء المقابل لها غير مرئى، إلا أن أدمغتنا تقوم ببعض العمليات لاستكمال التفاصيل التى حجبتها النقطة العمياء على أساس التفاصيل المحيطة بها، وبالتالى نحن لا ندرك حسيا وجود النقطة العمياء؛ كذلك قد يناسب هذا الوصف منطقة اللاشعور أو اللاوعى فى النفس البشرية فهناك نقطة عمياء داخل أنفسنا قد لا ندركها فى حياة اليقظة لكنها تبقى حاضرة فى أحلامنا ودوافعنا تجاه الأشياء.
ببصيرة نافذة أدرك عالم النفس الكبير سيجموند فرويد فى فترة مبكرة الدور الحيوى الذى يلعبه اللاوعى فى تحريك رغباتنا تجاه الأشياء كما أن هذا الجزء غير المرئى مسئول بشكل أساسى عن الإصابة أحيانا بأنواع معينة من الأمراض النفسية؛ كان على فرويد البحث للوصول إلى طريقة مثلى فى مخاطبة اللاوعى عن طريق الإطلاع بالتفسير والتحليل على أحلام مرضاه؛ والتى توصل من خلالها إلى حقائق عن ماض هؤلاء خاصة فترة الطفولة والنوزاع النفسية والرغبات المكبوتة تجاه الأشخاص كل هذا فى منطقة لا شعورية غير واعية وغير مرئية؛ عرف اللاشعور فى كتابه تفسير الأحلام بأنه الواقع النفسى الحقيقى وهو فى طبيعته الباطنة مجهول منا.. نجهله قدر جهلنا بحقيقة العالم الخارجى.. وكذلك فى تعريفه للحلم ..» من حلم ارتحل من عالم الشعور المستقيظ.. قد تمتلك نفوسنا شعورا ما أو يمزقنا ألم عميق أو تستغرق مشكلة كل طاقتنا العقلية»؛ من هذا المعنى أطلق المخرج أحمد فؤاد على عمله المسرحى اسم «النقطة العامية» فى حين أن العمل مأخوذ عن رواية «العطل» لفردريش دورينمات إلا أن فؤاد أراد أن ينفذ بذكاء لتشريح هذا العطل الذهنى أو النفسى أو فى شكله المادى الذى جاء مع عطل سيارة البطل بمنطقة مهجورة أراد تشريحه والتدقيق فيه لبلوغ أعماق نفس هذا البطل؛ انشطر وعيه فى لحظة ليخرج لنا كل ما كمن بضميره لاشعوريا يروى جرائم ارتكبها دون وعى بخطورتها بينما كان وعيه حاضرا مستيقظا متلذذا بانتصاره فى بلوغ مقاصده واثبات تفوقه فى الحياة على غريمه بالعمل.
«العطل» رواية كتابها دورينمات وقدمها فى معالجة مسرحية ذكية المخرج أحمد فؤاد؛ العرض يتناول قصة موظف شاب بإحدى شركات المنسوجات كان موظفا صغيرا منذ عام واحد بالشركة؛ لكنه خلال فترة قصيرة استطاع الوصول إلى أعلى المناصب وذلك بعد وفاة مديره الذى كان يكرهه بشدة؛ يبدأ العرض بحيلة مسرحية تستمر حتى نهايته؛ تتعطل سيارة البطل فى الطريق وينصحه العامل المسئول عن إصلاح السيارة بضرورة البقاء فى هذه المدينة المهجورة خاصة مع وجود عاصفة شديدة وبالفعل يبقى الرجل بالمدينة ويذهب إلى مكان مهجور «فيللا» لا يسكنها أحد؛ لكنه يقابل فيها ثلاث شخصيات يعملون بمجال القانون؛ هذه الفيللا يقطنها قاض متقاعد يدعو الضيف الجديد لمشاركته وأصدقاءه فى لعبة المحاكمة كل منهم يمارس عليه مهارته ودرايته بالقانون وهم يمارسون لعبة الشطرنج؛ المحامى والقاضى والدكتور بعلم النفس الجنائى الذى يحاصره بتحليل دوافعه النفسية تجاه ارتكاب جريمة قتل مدبره بذكاء ودقة محكمة حتى يصل هذا الضيف إلى قناعه بأنه قتل مديره بخيانته مع زوجته.
فى لحظة انهيار الجدار الفاصل بين الوعى واللاوعى تجسدت أمامه أربعة شخصيات نصبوا له تلك المحكمة؛ انتقل صراع الشطرنج بين المحامى والمدعى العام إلى صراع بينهما على اثبات التهمة ونفيها من منهم سيغلب ومن ستتفوق حجته على الآخر؛ الأول تولى الدفاع عنه مستندا إلى دور القدر فى تحقيق حلمه ووفاة مديره المفاجئ الذى لا شأن له فيه؛ والثانى ممثل الإدانة التى تلاحقه وتفتح غرفة ضميره المظلمة المصابة بالعمى عما تسبب فيه حتى ولو كان دون وعى منه أثناء السعى للتفوق المهنى على مديره؛ وكذلك التفوق الذكورى عليه بتعويض زوجته المهملة جنسيا بسبب ضعف قلبه؛ قرر هو تولى أمرها وإقامة علاقة معها ليؤنسها فى وحدتها ثم الثالث القاضى الذى انتهى فى تلك المحاكمة إلى إدانته والحكم عليه بالإعدام شنقا؛ والرابعة منفذة هذا الحكم؛ هذه الحالة التى تجزأ أو انشطر فيها اللاوعى متجسدا فى أربعة شخصيات بين طرفة عين شنق البطل نفسه عقابا على ما اقترفه من ذنوب؛ جرائم ربما قد يرتكبها المرء بدوافع نفسية بحتة ونوايا كامنة داخل أعماق أعماق النفس قد لا يدركها الشخص نفسه إلا حين وقوعها؛ تلك الجرائم المنبعثة من فساد ضمائرنا بسبب تعويض عقد نقص منذ الطفولة ومعارك اثبات الذات التى نخوضها مع أنفسنا ومع الآخرين.. ما تكنه نفوسنا من رغبات ودوافع لا يملك القانون المحاسبة عليها؛ بينما انسحب البطل وراء ضميره ليكشف نفسه أمام نفسه يحاسبها ثم يعاقبها حتى ولو بصورة مجازية على ما اقترفت من ذنوب.. التسبب فى قتل مديره ولو عن طريق التمنى؛ خيانة زوجته؛ التلاعب بزوجة مديره لاستغلالها فى تحقيق مآربة.
فى ديكور لـ«فيللا» فخمة انقسمت إلى طابقين تبدو مرعبة خاصة فى احتوائها على لوحات فنية لوجوه معذبة يبدو عليها التشوه وعدم الوضوح أجزاء منها محجوبة عن الرؤية البصرية للمشاهد.. ولوحة لغراب ضخم وأساس كئيب؛ اتخذت الفيللا شكل الميزان فى تصميمها الخارجى وتثبيتها بمجموعة من الأحبال التى توسطت الديكور من أعلى إلى أسفل وكذلك فى حبل الإعدام الذى تم تثبيته بالطابق العلوى؛ تفوق مهندس الديكور أحمد أمين فى تصميمه ورمزيته التى أضفت هالة من الرهبة والرعب لحالة الكابوس الذى عاش فيه البطل؛ أحاطت الديكور وقطع أساسه وكذلك اللوحات المصممة بالطابق العلوى حالة كابوسية مظلمة ورطت الجمهور فى كابوسه الذى استمر ساعة ونصف الساعة؛ ثم المؤثرات الضوئية لعبها بالنور مصمم الإضاءة أبوبكر الشريف انقلبت معها أحيانا بعض المشاهد إلى صور سينمائية أقرب لأفلام الرعب والإثارة أو السيكودراما «الدراما النفسية»؛ وكذلك أسهمت الموسيقى لمحمود أبو زيد فى المعايشة لحالات الغموض والتحول والتوتر بتسلسل أحداث العرض؛ تفوق المخرج هنا فى المزج بين عناصره للخروج بحالة مسرحية استثنائية بين الحلم واليقظة استطاع استغلال الديكور والإضاءة ثم ابداع حلول بديناميكية الحركة فى دخول وخروج الممثلين بالديكور فى مشاهد بعينها خاصة مشهد ذروة المحاكمة الذى يشرح فيه بدقة المدعى العام دوافع ارتكاب الجريمة ودقة التخطيط لها بخطوات محسوبة وضعت البطل فى هذه الحالة النفسية الأقرب إلى الكابوس ثم مشهد اختفاء هؤلاء جميعا وراءه أثناء صعوده سلم الطابق العلوى وكأنهم ظله الذى يتبعه.
لعب بطولة العرض الفنان نور محمود القادم من خلفية تليفزيونية بحتة يقف لأول مرة على خشبة مسرح الدولة؛ وفى هذه التجربة المسرحية الأولى الصعبة والمعقدة فنيا تقع أحداثها داخل قاعة مسرح الغد والمعروف أن عروض القاعة أشق على ممثل المسرح من عروض الخشبة؛ لكن استطاع نور اثبات وجوده بالنجاة من فخ مسرح القاعة بين مجموعة من المسرحيين المخضرمين ووضع قدمه على السلمة الأولى بعالم المسرح باقتحام أصعب أشكاله الفنية بجهد واضح؛ وفى المقابل شكلا الثنائى أحمد السلكاوى فى دور محامى البطل وأحمد عثمان المدعى العام رمانة ميزان العرض دارت بينهما مباراة ثمثيلية كبيرة تشبه صراعهما على الفوز بلعبة الشطرنج تفوق فيها الاثنان كل بمنهجه الفنى ومدرسته وتكنيكه فى السير على خطى تصعد وتهبط فيها كل شخصية حسب الضرورة؛ اشتد إيقاع العرض ببلوغهما معا ذروة اللعب فى هذه المحاكمة وتلك المباراة الفنية الممتعة؛ كما كان لظهور هايدى بركات واستغلال المخرج الجيد والذكى لها دور كبير فى إضفاء حالة من الريبة منذ اللحظة الأولى؛ من المشهد الأول وهى تستكمل رسم إحدى اللوحات للوجوه المعذبة بدت هذه الفتاة الروح غير المرئية بالعرض الشيء المبهم مثل مصيره.. مصيره النهائى الذى ينتظره تجسد فى هذه المرأة التى تظهر وتختفى أمامه كالشبح توهمه بنشوة لقاء محتوم بينهما ثم ترهبه بما وراء هذا اللقاء استغلال بديع لدور الفتاة الذى غلف وجودها حالة من الضبابية على مدار العمل بالكامل.. ضبابية تحيط واقع المسرحية غير الواقعى بالمرة؛ شاركهم البطولة الفنان حسام فياض فى دور القاضى الذى أصدر الحكم النهائى مع نهاية انعقاد هذه الجلسة وعمر صلاح الدين فى دور عامل السيارة؛ «النقطة العامية» أزياء نور سمير وإنتاج مسرح الغد تحت قيادة مديره سامح مجاهد؛ وإشراف المخرج خالد جلال رئيس قطاع الإنتاج الثقافى والمشرف على أعمال البيت الفنى للمسرح.